وسط صخب المصانع وأزيز المحركات في أونتاريو، جاءت الصدمة من الجنوب كصفعة مفاجئة من الولايات المتحدة الأمريكية، فبينما كانت الأيادي الكندية تكدّ في تصنيع السيارات الكهربائية الموعودة بمستقبل أنظف، كانت واشنطن تجهّز سكينًا من نوع آخر، تغرسه في ظهر أحد أقرب حلفائها.
غضب كندي يتفجّر
أشعل قرار الولايات المتحدة بفرض رسوم جمركية جديدة على السيارات الكهربائية المستوردة من كندا فتيل أزمة دبلوماسية وتجارية محتدمة. القرار، الذي صدر في مطلع أبريل 2024، فاجأ شركات التصنيع الكندية ونقابات العمال التي عبّرت عن غضبها الشديد، واصفة الخطوة بـ"طعنة في الظهر".
وحسب شبكة "سي إن إن" الأمريكية، فلم يُخفِ اتحاد العمال الكندي "أونيفور"، الذي يمثل عشرات الآلاف من العاملين في قطاع السيارات، امتعاضه، بل ووجّه انتقادات لاذعة إلى البيت الأبيض، معتبرًا أن السياسة الجديدة لا تليق بشريك استراتيجي يفترض فيه أن يدعم الجار الشمالي لا أن يثقل كاهله بقيود تجارية غير مبررة.
تضييق الخناق
لطالما شكلت صناعة السيارات، وخاصة الكهربائية منها، أحد أعمدة التعاون الاقتصادي بين البلدين، فعبر اتفاقية التجارة الحرة لأمريكا الشمالية (نافتا) بنسختها المعدّلة "CUSMA"، رُسمت خطوط إنتاج معقدة تتنقل فيها قطع السيارات والمواد الخام بحرية بين المصانع الكندية والأمريكية.
إلا أن القرار الأخير خرق هذا التوازن، فبدلاً من تعميق التعاون في مجال الطاقة النظيفة والنقل المستدام، فُرضت تعريفات جمركية تصل إلى 10% على السيارات الكهربائية الكندية التي تُباع في السوق الأمريكية، بحسب "سي إن إن".
تقول وزيرة التجارة الدولية الكندية، ماري نج، إن القرار يمثل انتكاسة لمبادئ الشراكة بين البلدين، مشيرة إلى أن الحكومة الكندية "ستتخذ كافة التدابير اللازمة" لحماية مصالحها الاقتصادية والعمالية.
ضربة لصناعات مستقبلية
في الوقت الذي تستثمر فيه كندا بشكل كبير في تصنيع البطاريات الكهربائية ومحركات السيارات النظيفة، تأتي الرسوم الأمريكية لتضعف من تنافسية المنتجات الكندية في السوق الأهم، وهي السوق الأمريكية. ويهدد هذا القرار آلاف الوظائف في جنوب أونتاريو، ويضع الشركات أمام معادلة مستحيلة بين زيادة الأسعار أو تقليص الإنتاج.
من جهتها، عبّرت شركة "ستيلانتيس" عن قلقها إزاء مستقبل استثماراتها في كندا، مشيرة إلى أن فرض رسوم غير متوقعة يقوّض استراتيجيات التحول الأخضر التي تتبناها الشركة في أمريكا الشمالية.
أما من الجانب الأمريكي، فتبرر الإدارة القرار بكونه محاولة لحماية الصناعة الوطنية من المنافسة "غير العادلة"، خاصة مع وجود دعم حكومي واسع للقطاع الكهربائي ضمن خطط الرئيس بايدن المناخية. ويرى بعض المشرّعين في الكونجرس أن الواردات، حتى من كندا، قد تعيق نمو المصانع المحلية الناشئة التي تُعد جزءًا من الاستراتيجية الصناعية الأمريكية الجديدة.
لكن هذا المنطق لم يقنع الكنديين الذين لطالما اعتبروا أنفسهم جزءًا من "سلسلة الإمداد الموحدة" في أمريكا الشمالية، وليسوا منافسين خارجيين بالمعنى التقليدي.
كنديون يجمدون زياراتهم لأمريكا
وحسب صحيفة بوليتيكو الأمريكية، فقد امتد أثر أزمة الرسوم الجمركية إلى قطاع لم يكن في الحسبان، إذ شهدت شركات السفر ووكلاء الحجوزات في كندا تراجعًا ملحوظًا في الإقبال على الرحلات إلى الولايات المتحدة، وسط دعوات متزايدة من مواطنين كنديين ونشطاء عبر مواقع التواصل الاجتماعي إلى "تجميد الزيارات السياحية لأمريكا"، في تعبير شعبي عن رفض القرار الجمركي.
الهاشتاج الذي أطلقته مجموعات مدنية تحت عنوان #NoTripToUSA سرعان ما تصدّر قوائم التفاعل في كندا، في موجة مقاطعة تلقائية حملت رسائل غضب سياسي وثقافي، وعبّر كثيرون عن امتعاضهم من "استغلال الولايات المتحدة شراكتها مع كندا وقتما تشاء، والتنكر لها حين يتعلق الأمر بمصالحها الصناعية".
وأكد اتحاد وكالات السفر الكندية (ACTA) أن بعض الوجهات الأمريكية التقليدية، مثل فلوريدا ونيفادا شهدت انخفاضًا في الحجوزات بنسبة تصل إلى 20% خلال أسبوع واحد فقط بعد الإعلان عن الرسوم، وهو ما يُعد سابقة في العلاقات السياحية بين البلدين.
من جانبها، لم تُصدر وزارة السياحة الأمريكية بيانًا رسميًا حول المسألة، غير أن مراقبين يتوقعون أن تتأثر مناطق الجذب السياحي التي تعتمد على الزوّار الكنديين بشكل مباشر، خاصة مع حلول موسم الصيف المرتقب.
تهديد وحدة أمريكا الشمالية
إلى ذلك حذّر محللون لـ"بوليتيكو" من تداعيات أعمق لهذا القرار تتجاوز قطاع السيارات، فالاتفاقيات التجارية بين البلدين بنيت على أسس من الثقة المتبادلة، والتراجع عن هذا المبدأ قد يفتح الباب أمام خلافات أكبر في ملفات أخرى، مثل الألومنيوم، ومنتجات الألبان، وحتى الطاقات النظيفة.
فيما يخشى مراقبون أن تكون هذه الخطوة بداية "حمائية ناعمة" تتزايد حدتها كلما اقتربت الولايات المتحدة من موسم انتخابي، وهو ما يجعل الشركاء الأقرب في مرمى نيران السياسات المحلية الأمريكية، بحسب "سي إن إن".
كندا تبحث عن مخرج
في ظل الغضب المتصاعد، تدرس الحكومة الكندية إمكانيات الرد، سواء عبر رفع القضية إلى آلية تسوية النزاعات ضمن اتفاقية "CUSMA"، أو من خلال فرض تعريفات مضادة على صادرات أمريكية معينة، كرسالة ضغط سياسي واقتصادي.
كما بدأت بعض الشركات بالفعل النظر في تحويل جزء من صادراتها نحو أسواق أخرى، كأوروبا وآسيا، هربًا من التعقيدات الأمريكية المتزايدة.