أصدرت محكمة فرنسية حكمًا بإدانة زعيمة اليمين المتطرف مارين لوبان بتهمة الاختلاس، في خطوة قضائية مصيرية تهز أركان المشهد السياسي الفرنسي، إذ إن هذا الحكم، الذي يأتي في قضية اختلاس أموال البرلمان الأوروبي، يمكن أن يمنع لوبان من الترشح للانتخابات الرئاسية المقبلة عام 2027، ما يهدد بتغيير خارطة السياسة الفرنسية للسنوات المقبلة ويفتح الباب أمام تساؤلات حول مستقبل التجمع الوطني، أقوى أحزاب اليمين المتطرف في فرنسا.
اتهامات خطيرة
تواجه مارين لوبان، رئيسة التجمع الوطني (الجبهة الوطنية سابقًا) اتهامات بـ"اختلاس أموال عامة" و"التواطؤ في اختلاس أموال عامة".
وتشير صحيفة "إكسبريس" الفرنسية إلى أن الاتهامات تتمحور حول قيام لوبان، خلال فترة عملها كنائبة في البرلمان الأوروبي (2004-2017)، بتوظيف أربعة مساعدين برلمانيين وهميين، كانوا في الواقع يعملون لصالح حزبها، وليس على أنشطة متعلقة بالبرلمان الأوروبي.
وبحسب تحقيقات المكتب الأوروبي لمكافحة الاحتيال، فإن كاترين جريسيه، رئيسة مكتب لوبان "لم تقض سوى 740 دقيقة، أي نحو 12 ساعة فقط" في البرلمان الأوروبي، مع أنها كانت مسجلة كمساعدة برلمانية. ومن المتهمين أيضًا حارسها الشخصي تييري ليجييه.
تتجاوز القضية حالات التوظيف الوهمي الفردية، إذ يعتقد الادعاء أن لوبان كانت في قلب "نظام اختلاس" منظّم ومركزي للأموال المدفوعة من الاتحاد الأوروبي لصالح حزبها بين عامي 2004 و2016.
كما نقلت صحيفة "نيويورك تايمز"، عن المدعية لويز نيتون قولها خلال المحاكمة إن هدف لوبان وشركائها كان "تحويل البرلمان الأوروبي إلى بقرة حلوب لهم".
وفقًا لمرافعات المدعين، فإن "النظام" كان "غير مسبوق" من حيث مدته، ونطاقه (4.5 مليون يورو من الأضرار المقدرة)، وطبيعته "المنظمة" التي "تعززت" عندما تولت لوبان قيادة الحزب في عام 2011، ولم تتوقف إلا بعد بلاغ من البرلمان الأوروبي.
العقوبات المحتملة
في ختام المحاكمة التي استمرت شهرين، طلب الادعاء عقوبة قاسية بحق لوبان تتمثل في الحرمان من الأهلية الانتخابية لمدة خمس سنوات مع التنفيذ الفوري، الأمر الذي يعني تطبيق العقوبة على الفور حتى في حالة الاستئناف.
كما طلب الادعاء عقوبة السجن لمدة خمس سنوات منها سنتان نافذتان، مع إمكانية تعديل هذه العقوبة، إضافة إلى غرامة مالية كبيرة قدرها 300 ألف يورو.
لم يكتف الادعاء بمطالبته بعقوبات ضد لوبان شخصيًا، بل شملت مطالباته فرض غرامة ضخمة على حزب التجمع الوطني تصل إلى 4.3 مليون يورو، منها 2 مليون يورو نافذة، ما يشكّل ضربة مالية قوية للحزب.
علّقت لوبان على هذه المطالب القاسية بتصريحات حادة، معتبرة أن رغبة الادعاء الحقيقية هي "حرمان الفرنسيين من القدرة على التصويت لمن يرغبون"، ووصفت ما يطلبه الادعاء بأنه لا يقل عن محاولة لتحقيق "موتها السياسي".
مستقبل سياسي في خطر
تشير "إكسبريس" إلى أن الحكم يمكن أن يؤدي إلى تغيير مسار مارين لوبان السياسي بشكل جذري ومنعها من الترشح للانتخابات الرئاسية في عام 2027.
وتعتبر لوبان هذا القرار "معاديًا للديمقراطية بشكل عميق" إذا صدر مع التنفيذ الفوري، وأكدت أنها ستستأنف للدفاع عن براءتها.
يجادل محامو لوبان، كما ذكرت "نيويورك تايمز"، بأن قانون عام 2016 الذي يمكن بموجبه منعها من الترشح لم يكن ساريًا وقت وقوع المخطط المزعوم، وأن الأشخاص المعنيين كانوا مساعدين سياسيين، وليسوا موظفين في البرلمان الأوروبي.
خطة بديلة
رغم التهديد الذي يواجه لوبان، أكد نائب رئيس التجمع الوطني لويس أليو أن الحزب "لن يضعف" وسيستمر في "المعركة للفوز بالانتخابات"، وفقًا لما نقلته "إكسبريس".
وعلى الرغم من عدم تبني قادة الحزب رسميًا فكرة "خطة بديلة"، تشير استطلاعات الرأي إلى تزايد شعبية جوردان بارديلا (29 عامًا)، خليفة لوبان المحتمل، إذ أظهرت دراسة إيفوب-فيدوسيال أن 60% من الفرنسيين يتوقعون ترشحه للرئاسة خلال عامين، و43% "يرغبون" في ذلك، متفوقًا بنقطة واحدة على لوبان نفسها.
بارديلا، الذي وصفته "نيويورك تايمز" بالتلميذ "الهادئ والرزين"، قالت عنه لوبان إنه سيكون رئيس وزرائها إذا أصبحت رئيسة، لكنه تجنب الإجابة عن سؤال حول ترشحه المحتمل في غياب لوبان، مكتفيًا بالقول: "لن تكون غير مؤهلة، لذلك لا أطرح على نفسي هذا السؤال".
معركة قانونية وسياسية
كذلك تشير "إكسبريس" إلى أن هذه القضية تمثل اختبارًا حقيقيًا للديمقراطية الفرنسية وسيادة القانون، فمن ناحية، يؤكد الادعاء مبدأ "القانون يطبق على الجميع"، ومن ناحية أخرى، هناك مخاوف من أن الحظر قد يقوّض الديمقراطية الفرنسية.
ويعكس تصريح جيرالد دارمانان، وزير العدل الحالي، هذه المعضلة عندما كتب: "يجب مواجهة السيدة لوبان في صناديق الاقتراع، وليس في أي مكان آخر".
يأتي هذا في وقت تشهد فيه الجمهورية الفرنسية الخامسة اضطرابات سياسية متعددة، مع انتخابات برلمانية مفاجئة، وأربعة رؤساء وزراء في الأشهر الـ15 الماضية، وبرلمان شلّته انقساماته.
وإذا صدر حكم بمنع لوبان من الترشح، ستكون انتخابات 2027 الرئاسية هي الأولى منذ ما يقرب من 40 عامًا التي لا يظهر فيها اسم لوبان على ورقة الاقتراع، خاصة بعد وفاة مؤسس الحزب والد مارين، جان-ماري لوبان، في يناير الماضي.