جاءت تصريحات الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون في الخامس من مارس 2025 حول فتح النقاش الاستراتيجي حول حماية فرنسا لحلفائها في القارة الأوروبية عبر الردع النووي، في ظل استمرار التهديد الروسي الذي حوَّل الصراع الأوكراني إلى نزاع عالمي، لتتماشى مع التغير الذي شهده الموقف الفرنسي من الصراع الروسي الأوكراني بعد أن كان ماكرون يدعو لتسويته بالتفاوض والحلول السلمية.
فمنذ عام -في 14 مارس 2024- دافع ماكرون عن تصريحاته التي أثارت العديد من الانتقادات داخل فرنسا وخارجها، ومنها: عدم استبعاده إرسال قوات فرنسية وأوروبية إلى أوكرانيا لمواجهة روسيا، وأن هناك استعداد لكل الاحتمالات في أوكرانيا، وأن حلفاء كييف هدفهم منع بوتين من الانتصار في الحرب التي تعد مصيرية لمستقبل أوروبا وقيمها وهويتها.
دوافع متعددة
هناك العديد من الدوافع التي أدت إلى تغير موقف ماكرون من الصراع الروسي الأوكراني يمكن الإشارة إلى أهمها على النحو التالي:
(*) انكشاف الأمن الأوروبي: ثَمّة مقولة رددها الآباء المؤسسون للمشروع الأوروبي بأن أوروبا لن تولد إلا من رحم الأزمات لأن الدول الأعضاء لن تتخلى عن صلاحياتها وجزء من سيادتها بسهولة إلا إذا استشعرت خطرًا داهمًا على أمنها أو مصالحها الحيوية المشتركة. غيّر أن خبرة الحرب الروسية الأوكرانية وبرغم أنها مثَّلت تهديدًا للأمن الأوروبي إلا أنها عكست انكشافه بعد أن فشلت الدول الأوروبية في مواجهة التهديد الروسي لأمن القارة الذي يدخل في مفترق طرق حقيقي، في ظل اعتماد أوروبا على المظلة الأمنية للولايات المتحدة الأمريكية.
(*) الموقف الأمريكي من أوروبا: منذ إعادة انتخاب الرئيس الأمريكي دونالد ترامب لولاية رئاسية ثانية، بدت أوروبا في إدراك ترامب تشكِّل عبئًا على السياسة الأمريكية، وهو ما دفعه للاتجاه نحو فرض تعريفات جمركية على الواردات الأمريكية من أوروبا، وكذلك مطالبة الدول الأعضاء في حلف شمال الأطلسي "ناتو" لزيادة الانفاق الدفاعي ليصل إلى 5% من الناتج المحلي لكل دولة عضو، فضلًا عن دعم إدارة ترامب للأحزاب اليمينية المناهضة للوحدة الأوروبية، ويميل معظمها لتأييد روسيا والصين. وقد عقَّد من ذلك الموقف قرار الرئيس الأمريكي ترامب بسحب المساعدات العسكرية الأمريكية لأوكرانيا، ما أدى إلى تزايد الاقتراحات الأوروبية المطالبة بأن توظِّف كلٌ من فرنسا والمملكة المتحدة قدراتهما النووية باعتبارهما القوتين النوويتين في أوروبا لحماية الأمن الأوروبي.
(*) التقارب الأمريكي الروسي: جسَّد التقارب الأمريكي الروسي بعد انطلاق المفاوضات بين الجانبين في 18 فبراير 2025 بالسعودية واتفاقهما على استئناف عمل البعثات الدبلوماسية أحد الدوافع الرئيسية لتبنى ماكرون فتح النقاش الاستراتيجي حول توظيف الردع النووي الفرنسي، لحماية الحلفاء الأوروبيين لاسيما أنه اعتبر العدوان الروسي على القارة الأوروبية لا يعرف الحدود، وأن الوقوف متفرجين يعد ضربًا من الجنون. وفى حين أشاد الرئيس الأوكراني زيلينسكي في 6 مارس 2025 بدعوة ماكرون حول المظلة النووية الفرنسية لحماية أوروبا، معتبرًا أن السلام يجب أن يكون حقيقيًا ولا يعني استسلام أوكرانيا أو انهيارها، وهو ما يتطلب ضمانات أمنية قوية وطويلة الأمد لأوكرانيا وأوروبا والعالم أجمع، انتقد وزير الخارجية الروسي سيرجي لافروف تصريحات ماكرون لمناقشة وضع أوروبا تحت حماية السلاح النووي الفرنسي، واعتبره بمثابة تهديد لروسيا.
(*) تعزيز مكانة فرنسا في أوروبا: يسعي الرئيس الفرنسي ماكرون إلى ضمان الأمن الأوروبي واستقلاليته عن التبعية للولايات المتحدة الأمريكية، وذلك من خلال تعزيز الدور الفرنسي لقيادة القارة الأوروبية عبر طرح الاستقلالية الاستراتيجية الأوروبية.
هذا الدور الذي تجسَّد في دعوة كل من ماكرون وأنجيلا ميركل المستشارة السابقة لألمانيا إلى تشكيل جيش أوروبي مسقل لحماية الأمن الأوروبي ضد مصادر التهديدات المختلفة. كما وصف ماكرون حلف شمال الأطلسي بأنه يعاني من موت دماغي، لذلك يعتقد ماكرون بأن مصير الأمن الأوروبي يرتبط بنتائج الحرب الروسية الأوكرانية التي يعتبرها حربًا وجودية بالنسبة لأوروبا وفرنسا، محذرًا من أن انتصار روسيا في هذه الحرب يعنى أن أوروبا ستفقد أمنها.
(*) إخفاقات ماكرون: يبدو أن طرح ماكرون لمسألة النقاش حول مد المظلة النووية الفرنسية لحماية الحلفاء الأوروبيين ترتبط في أحد أبعادها بالمشكلات التي تواجه ماكرون داخليًا وخارجيًا، فعلى المستوى الداخلي تفاقمت أزمة المديونية الفرنسية، وتعاقب أربعة رؤساء حكومات في عام واحد، وتصاعدت المطالب باستقالته بعد حله البرلمان بما أدى إلى تصاعد دور اليمين المتطرف وزيادة عدد مقاعده داخل البرلمان الفرنسي واستعداده لخوض الانتخابات الرئاسية الفرنسية المقرر انعقادها مايو 2027، أما على المستوى الخارجي فقد تواصلت المطالب بانسحاب القوات الفرنسية من إفريقيا فانضمت تشاد والسنغال إلى دول الساحل الثلاث التي أغلقت القواعد الفرنسية على أراضيها "مالي وبوركينا فاسو والنيجر"، وهو ما يعنى تراجع النفوذ الفرنسي داخل القارة الإفريقية لصالح روسيا والصين.
مساران محتملان
من المحتمل أن تسهم دعوة الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون نحو اتجاه فرنسا لحماية حلفائها عبر الردع النووي في تبلور مسارين رئيسيين داخل أوروبا، يمكن الإشارة إليهما على النحو التالي:
المسار الأول وهو الأقل ترجيحًا: تنامي التهديدات النووية المتبادلة بين روسيا وأوروبا، فعلى الرغم من توقع بعض التحليلات أنه من غير المرجح أن تعلن فرنسا تغييرًا كبيرًا في سياستها النووية إدراكًا لخطورتها على التوزان النووي في أوروبا، إلا أن دعوة ماكرون قد تؤدي إلى تشجيع دول أوروبية أخرى للسعي نحو امتلاك السلاح النووي، بما يضع القارة الأوروبية على شفا حرب عالمية نووية، في ظل رفض روسي لطرح ماكرون بمدِّ المظلة النووي الفرنسية إلى أوروبا.
هذا المسار يعد الأقل ترجيحًا لأن فتح مجالات التهديد النووي داخل أوروبا وفى ظل امتلاك روسيا لذلك السلاح وتهديدها باستخدامه يعزز من الردع ويحول دون استخدامه كسلاح فتاك يهدد البشرية جمعاء وليس أوروبا فقط.
المسار الثاني وهو الأكثر ترجيحًا، ويرتبط بانطلاق سباق تسلح محموم داخل القارة الأوروبية، وهو الأمر الذى تجلى في اتجاه العديد من الدول الأوروبية لزيادة مخصصات الدفاع لديها، وفى مقدمتها ألمانيا على سبيل المثال، والتي أعلنت عن استعدادها لرفع القيود كليًا عن حدود الإنفاق العسكري، كما تعكس موافقة قادة الاتحاد الأوروبي على خطة لإعادة التسليح بقيمة 800 مليار يورو، وذلك بهدف توفير مظلة دفاعية في وجه تهديدات روسيا وضعف البنيان الأمني الأوروبي بعد تخلي الرئيس ترامب عن دعم أوكرانيا وتقديمه لخطة للسلام لوقف الحرب الروسية الأوكرانية تعتقد الدول الأوروبية بأنها تمثل انتصارًا لروسيا في الحرب.
مجمل القول، تشكِّل دعوة الرئيس الفرنسي ماكرون لفتح النقاش حول استخدام الردع النووي لحماية الحلفاء في أوروبا تجسيدًا للإخفاق الأوروبي في حماية القارة الأوروبية ضد مصادر التهديدات الخارجية بالوسائل التقليدية أو من خلال أدوات التسوية السلمية للصراع الذي يدخل عامه الرابع دون حسم، برغم تعدد مبادرات تسويته، كما أنها تعكس الرغبة في توظيف القدرات النووية الفرنسية لتحقيق الاستقلالية الأوروبية عن التبعية الأوروبية للولايات المتحدة الأمريكية وتراجعها كضامن للأمن الأوروبي بعد انتخاب ترامب. وهي الدعوة التي ربما تعكس أيضًا احتمالية اندلاع سباق تسلح محموم داخل القارة الأوروبية سيكون على حساب الأبعاد التنموية والاجتماعية بما يعزز من فرص صعود اليمين المتطرف في مثل هذا السياق، وتصبح أوروبا بين مطرقة التهديد الروسي خارجيًا وسندان تصاعد اليمين المتطرف داخليًا، وهي أوضاع تضع أوروبا في مفترق طرق حقيقي ليبقى أمنها مأزومًا.