في 7 يناير 2025 اندلعت حرائق واسعة النطاق في الولايات المتحدة الأمريكية، تحديدًا في مدينة لوس أنجلوس بولاية كاليفورنيا التي تُعتبر من أكبر عشر ولايات في أمريكا، وامتدت الحرائق إلى ولايتي نيويورك وشيكاغو، إذ تضم هذه الولايات أغلى العقارات في الولايات المتحدة الأمريكية، وهو الأمر الذي أحدث خسائر اقتصادية مباشرة كبيرة قُدرت بحوالي 150 مليار دولار، بالإضافة إلى الخسائر الاقتصادية غير المباشرة، وهو ما جعل مؤسسة "أكيوويذر" تُصنفها على أنها من أكبر الكوارث الطبيعية تكلفة في تاريخ الولايات المتحدة الأمريكية.
وتأسيسًا على ما سبق، يتطرق هذا التحليل إلى الخسائر الاقتصادية المباشرة والغير المباشرة لهذه الحرائق على الاقتصاد الأمريكي، فضلاً عن توضيح تأثيرها على الاقتصاد العالمي، وآليات المواجهة.
تأثيرات داخلية
يُمكن توضيح الآثار الاقتصادية الداخلية من جراء حرائق الغابات، على النحو التالي:
(-) ارتفاع الخسائر المباشرة: تسببت حرائق الغابات في الولايات المتحدة الأمريكية في بداية عام 2025 في حجم تاريخي من الخسائر الاقتصادية المباشرة، إذ قُدر حجم هذه الخسائر من 135 مليار دولار إلى 150 مليار دولار وفقًا للأرقام الأولية المُحدثة من شركة التنبؤ الخاصة AccuWeather Inc. ويتضح الخسارة التاريخية الكبيرة من أرقام الشكل (1)، إذ إنه خلال السنوات محل الدراسة، لم تصل خسائر حرائق الغابات إلى رقم أعلى من 22.7 مليار دولار، الذي سُجل في عام 2018، وهو الأمر الذي يوضح الكارثة الضخمة التي يُعاني منها الاقتصاد الأمريكي في عام 2025، والتي كشفت عن أن البنية التحتية لأمريكا اتسمت بالهشاشة أمام هذه الحرائق.
(-) ارتفاع تكاليف الإخماد: تُمثل تكاليف إخماد الحرائق في الولايات المتحدة الأمريكية خسارة كبيرة للاقتصاد، إذ إنها تُقدر بمليارات الدولارات سنويًا. فكما يوضح الشكل (2)، فإن هذه التكاليف ارتفعت من 1.59 مليار دولار في عام 2019 إلى 4.39 مليار دولار في عام 2021؛ بسبب أن هذا العام شهد حرائق واسعة في ولاية كاليفورنيا، إذ أنه تم احتراق حوالي 2.57 مليون فدان في جميع أنحاء الولاية. ولكن انخفضت هذه التكلفة في الأعوام التي تلت هذا العام، إذ سجلت 3.55 مليار دولار في عام 2022 وحوالي 3.166 مليار دولار في عام 2023. ولكن ذهبت التقديرات إلى أن هذه التكلفة ستضاعف في عام 2025 بالمقارنة بعام 2021، بحيث تُقدر بحوالي أكثر من 8 مليارات دولار، ويرجع هذا التقدير إلى أن حرائق هذا العام تشهد مساحات واسعة.
(-) خسائر شركات التأمين: تسببت حرائق الغابات في تراجع أسهم شركات التأمين الأمريكية، إذ قُدر حجم الخسائر المؤمن عليها من حرائق الغابات في ولاية لوس أنجلوس بحوالي أكثر من 20 مليار دولار، بحسب تقديرات بنك "جي بي مورجان"، إذ أن المدفوعات الكبيرة المرتبطة بالأضرار الواسعة النطاق في الممتلكات وانقطاع الأعمال، تؤدي إلى تقليص أرباح هذه الشركات بشكل كبير. ويُمكن أن نوضح التراجع في صناعة التأمين من انخفاض مؤشراتها في البورصة في يوم 10 يناير 2025، إذ انخفض مؤشر القطاع ترافيلرز بنسبة 4%، كما انخفض مؤشر شركة التأمين متعددة الخطوط ميركوري جنرال، التي مقرها لوس أنجلوس بنسبة 22%، في حين انخفضت أسهم شركة أولستيت AllState Insurance Company بنسبة 7%. وهو ما يدفع سوق التأمين إلى الانحدار التام.
ومن الجدير بالذكر هنا أن شركات التأمين في الولايات المتحدة الأمريكية، خاصة في الولايات التي تُعاني من كوارث طبيعية، تواجه مشكلة التسعير على نماذج التأمين، وهو ما جعلها تلجأ إلى شركات تأمين أخرى؛ بسبب المخاطر المتقلبة وغير المتوقعة. إذ رفعت وثيقة إعادة التأمين على العقارات بمفردها بنسبة 35% في عام 2023، هذا في ظل ارتفاع خسائر شركات التأمين المترتبة على الكوارث الطبيعية في الولايات المتحدة الأمريكية، إذ سجلت حوالي 70% من إجمالي خسائر شركات التأمين في العالم، وذلك وفقًا لمعهد الأبحاث التابع لشركة إعادة التأمين السويسرية (سويس ري).
(-) تأثر النمو الاقتصادي: إن الخسائر الاقتصادية المباشرة لحرائق الغابات تُستقطع من الناتج المحلي الإجمالي للولايات المتحدة الأمريكية بنسبة تتراوح من 2 إلى 4%، إذ أنه في حالة تقدير الخسائر بالانخفاض في قيم العقارات وفقدان الدخل، وتكاليف الكهرباء، وأضرار الممتلكات والبنية التحتية، وتكاليف الإخلاء وتكاليف إخماد الحرائق وخسائر السياحة وخسائر المدارس والتعليم الناجمة عن حرائق الغابات، فضلاً عن زيادة أقساط التأمين، سيتراوح العبء الاقتصادي السنوي لحرائق الغابات في الولايات المتحدة الأمريكية من 394 مليار دولار إلى 893 مليار دولار بحسب تقديرات الأغلبية الديمقراطية في اللجنة الانتخابية المشتركة بالكونغرس الأمريكي.
وعلى هذا الأساس يُمكن القول إنه عند حساب التأثيرات الاقتصادية المباشرة وغير المباشرة لحرائق الغابات الحالية في الولايات المتحدة الأمريكية، سيجعل حجم الخسائر يصل إلى أكثر من 275 مليار دولار، وهو الأمر الذي سيُشكل عبئًا على معدلات النمو الاقتصادي، إذ أن التقديرات تذهب إلى أن خسائر الحرائق حتى الوقت الحالي تُمثل حوالي 4% من الناتج المحلي الإجمالي لولاية كاليفورنيا.
(-) تدمير البنية التحتية: تسببت حرائق لوس أنجلوس في أضرار جسيمة بالمدارس والمناطق التعليمية، كما تضرر القطاع العقاري بشكل كبير، إذ تم تدمير أكثر من 12 ألف منزل ومحل تجاري ومدرسة، كما أن حوالي 40,300 فدان احترق عبر الحرائق، وهو الأمر الذي تسبب في تدمير كبير للبنية التحتية في الولايات التي حدثت بها الحرائق. ومن ناحية أخرى، فإن تدمير عدد كبير من العقارات يُنذر بأزمة رهن عقاري داخل البنوك الأمريكية.
(-) تضرُر قطاع السياحة: تُعد الولايات المُتضررة من حرائق الغابات وجهة سياحية هامة في الولايات المتحدة الأمريكية؛ نظراً لفخامتها وتصميمها الرائع، فهي تضم مواقع شهيرة مثل هوليوود ومنتزه يوسمايت الوطني. ففي عام 2024 استقبلت كاليفورنيا حوالي 17.9 مليون سائح من الخارج، ولكن بعد الحرائق وتدمير واختفاء العديد من القصور والمعالم، سيتضرر قطاع السياحة بشكل كبير.
تأثيرات خارجية
إن التأثير السلبي لحرائق الغابات لا يقتصر فقط على الاقتصاد الأمريكي، بل يؤثر على الاقتصاد العالمي، وذلك على النحو التالي:
(-) تهديد إمدادات النفط: إن تركز مصافي النفط الأمريكية في الولايات التي شهدت حرائق غابات واسعة، يجعل هناك تهديدًا واضحًا لسوق النفط العالمي. فولاية لوس أنجلوس تضم أكبر مصفاة في الساحل الغربي بسعة 365 ألف برميل من النفط الخام يومياً، إذ تشحن هذه المصفاة منتجاتها عبر اتصالاتها بالعديد من خطوط الأنابيب ومحطات توزيع المنتجات. وبالإضافة إلى ذلك، تنتج محطة توليد الطاقة المشتركة "واتسون" 400 ميجاوات، إذ إنها تُعد أكبر منشأة لإنتاج الطاقة المشتركة في كاليفورنيا، كما تحتوي هذه الولاية على 13 مصفى للنفط بإجمالي عدد براميل يُقدر بحوالي 1.62 مليون برميل يوميًا كما يوضح الجدول (1). ومن هذه الأرقام يتضح أن تضرُر هذه الولايات بشكل كبير يؤثر على إمدادات النفط داخل الولايات وفي السوق العالمي، فضلاً عن ارتفاع الأسعار نسبيًا، إذ أن الولايات المتحدة الأمريكية تتصدر قائمة مُنتجي النفط في العالم، وتضخ يوميًا كمية نفط خام تفوق بنحو 50% ما تنتجه المملكة العربية السعودية.
(-) تشديد السياسات النقدية: وفقًا لما أشار إليه الرئيس الأمريكي "جو بايدن" بأن الفيدرالي الأمريكي سيتحمل 100% من تكاليف الاستجابة الأولية لحرائق الغابات في لوس أنجلوس، فإنه يفسح الحديث أمام إمكانية انتقال أثر تعامل الولايات المتحدة الأمريكية مع الآثار الاقتصادية لهذه الأزمة إلى الاقتصاد العالمي. إذ أنه من المُحتمل أن يتجه الفيدرالي لرفع أسعار الفائدة؛ لمواجهة الموجة التضخمية المُحتملة في الاقتصاد الأمريكي بعد هذه الحرائق، وهو ما سيجعل الحكومات الأخرى تتجه نحو تشديد السياسة النقدية، وهو ما سيكون له آثار على معدلات الاستثمار داخل هذه الدول، خاصة الدول النامية التي تحتاج إلى سياسة نقدية تيسيرية؛ حتى يُمكنها جذب الاستثمارات المختلفة وتحقيق التنمية المستدامة.
(-) حدوث موجات تضخمية: إن من الآثار السلبية المُحتملة لحرائق الغابات هو تآكل التربة وهلاك العديد من الكائنات الحية وانخفاض إنتاجية الاقتصاد في العديد من القطاعات الاستراتيجية، خاصة الزراعة والصناعة. وهو الأمر الذي يتسبب في موجات تضخمية تجتاح الاقتصاد العالمي، باعتبار أن العالم أصبح مترابطًا بشكل كبير في ظل العولمة الحديثة، والتشابك بين الاقتصادات. فما يحدث في الاقتصاد الأمريكي سينتقل أثره بالتأكيد إلى باقي دول العالم، خاصة الدول النامية التي تعتمد في برامج التنمية الخاصة بها على الاقتصاديات الكبرى.
آليات المواجهة
إن حرائق الغابات المُتكررة في الولايات المتحدة الأمريكية، خاصة الحرائق الحالية، تتطلب وضع آليات مواجهة استراتيجية، تتمثل في الآتي:
(-) آليات قصيرة المدى
تُقدم الآليات قصيرة المدى حلًا سريعًا لمواجهة آثار الحرائق، وذلك على النحو التالي:
(*) توجيه الدعم الضخم: حتى يتم تدارك الآثار الاقتصادية السلبية لحرائق الغابات، يتطلب الأمر توجيه الدعم الكبير للولايات المُتضررة، على أن يكون توجيه هذا الدعم متوافقًا مع حجم الضرر الذي تسبب في كل ولاية.
(*) عدم الانشغال بالانقسامات: في وقت الأزمات لا يكون هناك وقت للانقسامات والصراعات. إذ أن انتقاد الرئيس الأمريكي المُنتخب "دونالد ترامب" للسلطات في لوس أنجلوس واتهامها بعدم الكفاءة، فضلاً عن إلقاء التُهم على الديمقراطيين في هذه الحرائق، يعمل على إضعاف المواجهة الفعالة للحرائق وآثارها الضخمة. ومن هنا يتعين على جميع المسؤولين في الولايات المتحدة الأمريكية تحقيق التوافق؛ حتى يُمكن تدارك آثار الأزمة.
(-) آليات طويلة المدى
تُركز الآليات طويلة المدى على بناء منظومة متكاملة لمواجهة الكوارث الطبيعية المختلفة، وتتمثل في الآتي:
(*) إنشاء بنك للكوارث الطبيعية: تتعرض الولايات المتحدة الأمريكية إلى العديد من الكوارث الطبيعية، خاصة حرائق الغابات والأعاصير بشكل دوري، أي أن الطبيعة الجغرافية لأمريكا تجعلها عرضة لهذه الكوارث، وهو الأمر الذي يحتاج إلى تمويلات ضخمة تؤهل البنية التحتية للولايات الأكثر عرضة، وتمويلات تواجه خسائر الكوارث في حال حدوثها. ولهذا نقترح أن يتم إنشاء بنك في الولايات المتحدة الأمريكية مُتخصص في تمويل هذه الأمور، ويُكون رأس ماله من مساهمة جميع الولايات، بحيث يُخصص لكل ولاية حصة في هذا البنك باعتباره بنكًا تشاركيًا؛ لتحقيق أهداف المصلحة العليا.
(*) تقوية أجهزة الإنذار المبكر: يتوجب على الولايات المتحدة الأمريكية أن تعمل على تقوية أجهزة الإنذار المبكر؛ للتحسب للأزمات قبل حدوثها. فعدم التوقع والمفاجأة في الكوارث الطبيعية، يُسبب تفاقمًا كبيرًا للأزمة. فهناك نظام الإنذار متعدد المخاطر (MEWS)، الذي يعمل على إدارة مختلف المخاطر وآثارها. ولتعمل هذه الأنظمة بفعالية لابد أن تشارك أصحاب المصلحة والمجتمعات المعرضة للخطر بشكل فعال.
(*) استحداث برامج تكنولوجية: أصبحت التكنولوجيا سلاحًا استراتيجيًا يُمكن استخدامه لمواجهة الأزمات. إذ أنه يُمكن من خلال استخدام التقنيات التكنولوجية الحديثة في حرائق الغابات تسريع الاستجابة وتحسين دقة التدخل. فالكاميرات الذكية المزودة بالذكاء الاصطناعي تُعتبر أداة هامة في رصد الحرائق مبكرًا، وهو ما يتوجب استخدامها بشكل فعال؛ حتى يُمكن تفادي الخسائر الكبيرة. كما أنه يتوجب تطوير روبوتات مُتخصصة تستخدم في عمليات الإطفاء.
(*) دعم شركات التأمين: تُعاني شركات التأمين في الولايات المتحدة الأمريكية من مشكلات كبيرة، خاصة أنظمة التسعير التي تُعتبر غير عادلة لهم، وهو ما يتطلب دراسة حقيقية للمشكلات التي تواجهها، ووضع حلول لها؛ حتى يُمكنها تغطية تكاليف الخسائر المُحتملة من الكوارث الطبيعية.
وفي النهاية، يُمكن القول إن حرائق ولاية كاليفورنيا في يناير 2025 تُعتبر أكبر كارثة واجهتها أمريكا في التاريخ؛ بسبب الخسائر الكبيرة التي نتجت عنها. كما أنها كشفت عن هشاشة العديد من القطاعات في السوق الأمريكي، خاصة سوق التأمين الذي تعرض إلى خسائر كبيرة في هذه الحرائق، فضلاً عن فشل الأجهزة في التعامل مع هذه الكارثة ومنع اتساعها، وهو ما يؤكد أن الدول الكبرى تُعاني من العديد من الثغرات والمشاكل، وليس كما يبدو لنا بأنها قادرة على مواجهة أي مشكلة.