يُعاني العالم أجمع من ظاهرة "الطقس المُتطرف" التي باتت تؤثر على العديد من الاقتصاديات، إذ إنها تتسبب في خسائر في البنية التحتية العامة وفي قطاع الزراعة بشكلٍ خاصٍ، وغيرها من القطاعات المهمة؛ مما ينعكس على الناتج المحلي الإجمالي للدول بالسلب. فوفقًا للمكتب الوطني للبحوث الاقتصادية، فإن كل 1% من الاحترار يُسبب في خسارة 12% من الناتج المحلي الإجمالي العالمي، وهو ما دفع الدول المختلفة إلى اتخاذ خطوات سريعة وجادة للحد من تغيرات المناخ وانقلاب الطبيعة على النشاط البشري.
وتأسيسًا على ما سبق، يتطرق هذا التحليل إلى توضيح الخسائر الاقتصادية التي خلفتها ظاهرة الطقس المُتطرف، فضلًا عن إلقاء الضوء على الانعكاسات الاقتصادية المستقبلية لهذه الظاهرة على الدول المختلفة وآليات الحل الممكنة.
تكاليف باهظة
يترتب على ظاهرة الطقس المتطرف خسائر اقتصادية كبيرة، كما سيتم التوضيح على النحو التالي:
(-) ارتفاع قيمة الخسائر الاقتصادية: تتسبب الكوارث الطبيعية في تدمير أصول تبلغ قيمتها مليارات الدولارات بجميع أنحاء العالم، فكما يوضح الشكل (1)، فإن حجم الخسائر الاقتصادية العالمية من ظاهرة الطقس المتطرف سجل حوالي 120 مليار دولار خلال النصف الأول من عام 2024، وهو حجم خسائر كبير للغاية مع الأخذ في الاعتبار أنه على أساس نصف سنوي فقط. وعلى أساس سنوي، قُدر حجم الخسائر بحوالي 270 مليار دولار في عام 2022. وعلى الرغم من انخفاضها عن مستواها في عام 2017 الذي سجلت فيه حوالي 317.6 مليار دولار، لكنها تظل مرتفعة بشكل كبير عن عام 2013 الذي قُدر فيه حجم الخسائر الاقتصادية حوالي 162.3 مليار دولار. والجدير بالذكر هنا أن الأضرار الاقتصادية في عامي 2022 و2023 قدرت بحوالي 451 مليار دولار، وهو ما يُمثل زيادة بنسبة 19% مقارنة بالمتوسط السنوي خلال الـ 8 سنوات السابقة لهذه الفترة، وهو الأمر الذي يوضح أن تغيرات المناخ ما زالت تؤثر اقتصاديًا على مختلف الدول.
ونلاحظ من الشكل أيضًا أن الخسائر المؤمن عليها نسبتها بدأت في التزايد على مر السنوات، إذ كانت نسبتها تبلغ 25.6% من إجمالي الخسائر الاقتصادية في عام 2013، ولكنها ارتفعت نسبيًا في عام 2022 إلى حوالي 44.4%. وخلال النصف الأول من عام 2024، تسببت الكوارث الطبيعية في خسائر مُغطاة من شركات التأمين بقيمة حوالي 62 مليار دولار، أي زادت بنسبة 70% فوق متوسط 10 سنوات سابقة. وبحسب مدير الاستشارات المناخية لدى شركة "ميونخ ري"، فإن الكوارث الجوية في الولايات المتحدة هيمنت على الخسائر الاقتصادية العالمية. ففي حين سببت العواصف الرعدية الشديدة بمفردها في الولايات المتحدة الأمريكية خسائر اقتصادية بقيمة 42 مليار دولار، قُدر حجم الخسائر المُغطاة بالتأمين بأكثر من 34 مليار دولار. ومع زيادة مدفوعات المطالبات لدى شركات التأمين، قامت الشركات باللجوء إلى أسواق رأس المال وطرح سندات تُسمى "سندات الكوارث".
(-) التقسيم الإقليمي للخسائر: يختلف حجم الخسائر الاقتصادية الناتجة عن ظاهرة الطقس المتطرف بين المناطق المختلفة كما يوضح الشكل (2)، إذ قُدرت في أمريكا الشمالية وأمريكا الوسطى ومنطقة البحر الكاريبي بحوالي 2 تريليون دولار بسبب العواصف، خاصة الأعاصير المدارية. وفي آسيا، قدر حجم الخسائر حوالي 1.4 تريليون دولار، بينما قُدر في أوروبا 562 مليار دولار، وفي جنوب غرب المحيط الهادئ حوالي 185.8 مليار دولار. بينما قُدر بحوالي 115.2 مليار دولار في أمريكا الجنوبية، وأخيرًا تحملت القارة الإفريقية حوالي 43 مليار دولار. ويجدر التنويه على أنه بالرغم من تحمل القارة الإفريقية تكاليف مباشرة أقل بالنسبة للمناطق الأخرى، إلا أن التأثيرات الديناميكية غير المباشرة للظاهرة على هذه القارة أكبر.
(-) تمويلات مالية ضخمة: تتكلف مختلف الدول تمويلات مالية ضخمة من جراء الأضرار التي تُخلفها الكوارث الطبيعية. فمنذ عام 1980 حتى الوقت الحالي، تعرضت الولايات المتحدة الأمريكية لـ 400 كارثة مناخية، تجاوزت التكلفة الإجمالية لهذه الأحداث الـ 2.785 تريليون دولار. كما أنه وفقًا لموقع أكسيوس، فإن هناك حاجة إلى ما بين 70 مليار دولار إلى 345 مليار دولار لتحديث البنية الأساسية لحماية السكان من الفيضانات، بالإضافة إلى الحاجة إلى 40 مليار دولار سنويًا للتأثيرات التجارية المباشرة الناتجة عن الفيضانات، فضلًا عن التمويلات التي تحتاج إليها الدول النامية لمواجهة تغيرات المناخ.
(-) تضرُر الدول النامية: تدفع الدول النامية ثمنًا باهظًا نتيجة تغيرات المناخ. ففي حين أن 60% من الخسائر الاقتصادية الناجمة عن الكوارث المرتبطة بالطقس والمناخ والمياه في الاقتصادات المتقدمة، إلا أن هذه الخسائر تُعادل أقل من 0.1% من الناتج المحلي الإجمالي لهذه الاقتصادات. ولكن في البلدان الأقل نموًا، فإن 7% من الكوارث التي سببت خسائر اقتصادية لها تأثير يُعادل أكثر من 5% في الناتج المحلي الإجمالي، إذ تتسبب الكوارث في خسائر اقتصادية تصل إلى ما يقرب من 30%، وتصل هذه النسبة في الدول الجزرية الصغيرة النامية إلى 100%. وذلك وفقًا للمنظمة العالمية للأرصاد الجوية، وهو الأمر الذي يوضح أن الدول النامية هي المتضرر الأكبر من تغيرات المناخ بسبب اقتصادها المتدهور نتيجة التأثيرات الجيوسياسية المختلفة التي تؤثر عليها، وذلك على الرغم من مساهمتها الضعيفة في هذا التلوث، إذ تذهب التقديرات إلى أن حوالي 75% من انبعاثات ثاني أكسيد الكربون تأتي من الدول المتقدمة.
الانعكاسات المُستقبلية
إن التأثيرات التي تُخلفها ظاهرة الطقس المتطرف لها العديد من الانعكاسات الاقتصادية المستقبلية، خاصة على الدول النامية والناشئة، والتي تتمثل في الآتي:
(-) انخفاض معدلات النمو الاقتصادي: تؤثر ظاهرة الطقس المتطرف بشكل كبير على معدلات النمو داخل الدول. إذ من المرجح أن ينخفض معدل نمو البلدان النامية بمقدار 0.6 إلى 2.9 نقطة. ويرجع السبب وراء ذلك أن تغير المناخ سيؤثر على تراكم رأس المال داخل هذه الدول، إذ سيزداد ادخار المواطنين لتجنب التأثيرات السلبية المتوقعة، وهو ما يُقلل معدل النمو الاقتصادي. ومن ناحية أخرى، من الممكن أن تؤدي ظاهرة الطقس المتطرف إلى ندرة الموارد الاقتصادية، مما يؤدي إلى انخفاض النمو الاقتصادي في الأجل الطويل.
فكما يوضح الجدول (1)، أن ارتفاع درجة الحرارة بأقل من 2 درجة مئوية، سيُخفض معدل النمو الاقتصادي العالمي بنسبة 4.2%، وترتفع هذه النسبة مع ارتفاع درجة الحرارة بنسبة 2.6 درجة مئوية إلى 13.9%. أما إذا لم يتم اتخاذ أي إجراءات تخفيفية (أي زيادة الحرارة بنسبة 3.2 درجة مئوية)، سينخفض الناتج بنسبة 18.1%. وتشير أرقام الجدول إلى أنه من المتوقع أن تشهد منطقة آسيا ومنطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا انخفاضًا كبيرًا في الناتج المحلي الإجمالي بحلول عام 2050. ففي آسيا، سينخفض الناتج المحلي الإجمالي بنسبة 3.3% في حال ارتفاع درجة الحرارة إلى أقل من درجتين مئويتين، و14.5% في السيناريو الأسوأ. من ناحية أخرى، ستشهد منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا انخفاضًا بنسبة 4.7% إذا ارتفعت درجة الحرارة بأقل من درجتين مئويتين، و27.6% في سيناريو ارتفاع درجة الحرارة بـ 3.2 درجة مئوية.
(-) تضرُر الأمن الغذائي: يرتبط تحقيق الأمن الغذائي العالمي بمستويات الاستقرار في المناخ ارتباطًا وثيقًا للغاية. فعندما حدثت موجات الجفاف غير المسبوقة في صيف 2022، أصبحت الصين على شفا كارثة مائية لها عواقبها المدمرة على الأمن الغذائي العالمي وأسواق الطاقة. فقد أدى انخفاض مستويات الخزانات إلى انخفاض إنتاج الطاقة الكهرومائية. ومن ناحية أخرى، تنخفض مستويات المياه الجوفية بمقدار متر أو أكثر سنويًا في أجزاء من شمال الصين، وهو ما يؤثر على الإنتاج الزراعي داخل الصين، مما ينقل أثره إلى سوق السلع الغذائية العالمية، مما يرفع أسعار السلع العالمية التي تستوردها الدول النامية. فوفقًا للبنك الدولي، لا يزال تضخم أسعار المواد الغذائية المحلية مرتفعًا للغاية في الدول المنخفضة والمتوسطة الدخل. ومن الجدير بالذكر هنا أن الجفاف الذي حدث في منطقة فيتنام رفع أسعار البن في السوق العالمي، كما أن بتتبع المؤشر الزراعي للمواد الأساسية المستخدمة في تغذية الماشية وصناعة الخبز، تبين أنه شهدت مجموعة من المحاصيل مثل الخضروات ارتفاعًا في أسعارها خلال عام 2024 بسبب الاضطرابات المناخية في غرب إفريقيا.
وفي هذا الإطار كان لتغيرات المناخ آثار كبيرة على القطاع الزراعي في الدول النامية. فوفقًا لمنظمة الأغذية والزراعة "الفاو"، فإن من إجمالي الخسائر في عام 2017 فيما يتعلق بإنتاج المحاصيل والثروة الحيوانية، كان بنسبة 37% بسبب الفيضانات و19% بسبب الجفاف، وهو ما ترتب عليه آثار سلبية كبيرة على الأمن الغذائي داخل هذه الدول كما يوضح الشكل (3). فعلى الرغم من ارتفاع هذا المؤشر في الدول المتقدمة، بتسجيله نسبة 83.7% في فنلندا، و81.7% في إيرلندا، و80.2% في فرنسا، و79.5% في اليابان، إلا أنه انخفض داخل العديد من الدول العربية والإفريقية، إذ سجل 66.2% في الأردن، و65.2% في الكويت، و61.7% في جنوب إفريقيا، و56% في مصر، و42.8% في السودان، وهو ما يوضح أن التأثيرات السلبية المستقبلية للتغيرات المناخية تزداد في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا.
(-) تدهور التنمية الاقتصادية: تشير التوقعات إلى أن درجة حرارة العالم سترتفع خلال الخمسين عامًا القادمة بمقدار درجتين إلى 3 درجات، وهو ما سيكون له عواقب وخيمة على التنمية الاقتصادية، إذ ستؤثر على جودة المياه والإنتاجية الزراعية. كما أنه من المتوقع أن 5% من الناتج المحلي سنويًا سيذهب هباءً بسبب هذه التأثيرات، وهو الأمر الذي سيرفع معدلات الفقر، خاصة في الدول النامية.
آليات الحل
يتطلب الوضع الحالي للتأثيرات الاقتصادية الخاصة بظواهر الطقس المتطرف اتخاذ مجموعة من آليات الحل الجادة والفعالة، وذلك على النحو التالي:
(-) التوسع في مشروعات الطاقة المتجددة: تتمثل النقطة المحورية في مواجهة تأثيرات تغيرات المناخ في التوسع في مشروعات الطاقة المتجددة حتى يمكن تقليل انبعاثات غاز ثاني أكسيد الكربون. ومن هذه المشروعات الفعالة استخدام الكهرباء المولدة من الطاقة الشمسية بدلًا من الفحم، ومشروعات الهيدروجين الأخضر، واستخدامه كوقود يُستخدم في قطاعات الطاقة والصناعة والنقل والكيمياء. ومن الجدير بالذكر هنا أن هذه المشروعات لكي تؤتي ثمارها، لابد أن يتم تنفيذها على مستوى جميع دول العالم.
(-) إنشاء بنك تمويلي لمشروعات التكيف: تُعاني الدول النامية من مشكلة أساسية تتمثل في الحصول على التمويل الميسر لتنفيذ مشروعات التكيف مع تغيرات المناخ، وهو ما يتطلب إنشاء بنك مُختص بتمويل هذه المشروعات، على أن يقدم التمويل بأسعار فائدة مُخفضة تتناسب مع حجم اقتصادات الدول النامية. فكما تم التوضيح، فالدول النامية من أكثر الدول تأثرًا بتداعيات الطقس المتطرف، على الرغم من أنها لم تُساهم في نسبة التلوث العالمي، إذ تذهب التقديرات إلى أن الدول النامية قد تتحمل تكاليف اقتصادية ضخمة تُقدر بحوالي 580 مليار دولار سنويًا بحلول عام 2030، وهو ما سيتجاوز ميزانيات هذه الدول.
(-) تعزيز نظم الإنذار المبكر: إن تغيرات المناخ التي أصبحت تؤثر على الدول من جميع النواحي، تتطلب نظم إنذار مبكرة تعمل على تقليل الآثار السلبية المحتملة للظواهر المناخية القاسية. ومن ناحية أخرى، لابد أن تتكامل هذه النظم مع تحديث البنية التحتية للدول، بجعلها أكثر قدرة على الصمود. فضلًا عن ضرورة إدخال التحسينات في إدارة موارد المياه وإنتاج المحاصيل الزراعية في الأراضي الجافة.
وفي النهاية، يُمكن القول إن ظاهرة الطقس المتطرف أصبحت ظاهرة تؤثر بشكل عميق في اقتصادات الدول كافة، ومستقبلها في السنوات القادمة، خاصة الدول النامية. فالتمويلات التي توجهها الدول لمواجهة الآثار السلبية للكوارث الطبيعية لها تكلفة فرصة بديلة مرتفعة. فهذه التمويلات كان من الممكن استخدامها في تحقيق التنمية الاقتصادية، ورفع معدلات النمو الاقتصادي. ومن هنا يستوجب الوضع الحالي لتغيرات المناخ تكاتف جميع دول العالم لتخفيف الآثار الاقتصادية المتشائمة التي ستؤثر بشكل رئيسي على حقوق الأجيال القادمة.