عقب كشف الولايات المتحدة الأمريكية أواخر يوليو الماضي عن اعتماد روسيا على الطائرات المسيرة "الدورنز" وخاصة "إيرانية الصنع" في نزاعها مع أوكرانيا؛ باتت أنظار العالم تتجه نحو مدى قدرة هذا السلاح على إحداث تحول في خريطة النزاع الروسي الأوكراني، خاصة لدوره الفاعل في تحديد مواقع أهداف العدو وتوجيه نيران المدفعية نحوه دون إرسال واحدت من القوات الخاصة لتفقد مواقع العدو كما كان في الماضي، ثم بدأ الحديث عن تطور قدرات إيران في مجال المسيرات، رغم العقوبات الأمريكية الخانقة المفروضة عليه.
وفي ضوء ذلك، يتطرق التحليل التالي إلى معرفة أنواع الدرونز (الطائرات بدون طيار) التي تم استخدامها في النزاع الروسي الأوكراني منذ اندلاعه في أواخر فبراير 2022، ومدى قدرتها على إحداث تغيير في هذا النزاع، إضافة إلى وضع جملة من السيناريوهات حول مستقبل هذه المسيرات.
درونز متعددة:
لعبت "الدرونز" دورًا رئيسيًا في الأزمة الروسية الأوكرانية، فكلا البلدين اعتمد على هذا السلاح الفتاك في محاولة لتدمير أهداف الخصم و الانتصار في ساحة المعركة، وحتى الآن جرى الكشف عن ثلاثة أنواع من المسيرات التي استخدمت في هذا النزاع، وفقًا لما أعلنته المصادر الأوكرانية و الغربية، كالآتي:
(*) الطائرات المسيرة إيرانية الصنع: اعتمدت موسكو في هذا النزاع على مسيرات إيرانية من نوعيات مختلفة من قبيل "شاهد- 136" و "مهاجر- 6" إضافة إلى "أراش- 2"، وهو ما دفع القوات المسلحة الأوكرانية لاستخدام صواريخ مضادة للطائرات وأجهزة تشويش إلكترونية في محاولة منها للتصدي لهذه المسيرات وتدميرها، مبينة في أكتوبر الجاري أنها اعترضت 60 في المئة من جميع طائرات "شاهد -136"، ورغم أن طهران نفت إمدادها لروسيا بهذه المسيرات، إلا أن تصريح المرشد الإيراني الأعلى علي خامنئي أن "من كان يقول إن المسيرات الإيرانية، هي صور مفبركة بات الآن يحذر من خطورتها"، فنّد تلك المزاعم، وهو ما يؤكد بشكل غير مباشر انخراط الدرونز الإيرانية للمرة الأولى في حرب واسعة النطاق، بعد أن كانت مسيراتها مقتصرة على استخدام وكلائها في منطقة الشرق الأوسط.
(*) الطائرات المسيرة تركية الصنع: في الوقت الذي يعتمد فيه الروس على مسيرات إيرانية، فإن أوكرانيا حمت قواعدها وتصدت للهجمات الروسية باستخدام الدرونز التركية المعروفة بـ"بيرقدار تي بي-2" (Bayraktar TB-2)، وهو ما أحدث تحولًا في مسار الأزمة وعرقلة تقدم المهاجمين الروس في بعض الأوقات نحو المواقع العسكرية بكييف، ويرجع استخدام أوكرانيا لهذه الدرونز تحديدًا إلى أن الشركة المصنعة لها كان لديها مصنع في الأراضي الأوكرانية قبل اندلاع الأزمة، كما أن الشركات الأوكرانية أيضًا هي المنتجة لمحركات هذه المسيرات، إضافة لبيع أنقرة على مدار عامين عدد من مسيراتها إلى كييف التي اعترفت في مارس الماضي بقدرة الطائرة المسيّرة التركية على إحداث تقدم في النزاع ضد موسكو.
(*) الطائرات المسيرة روسية الصنع: نظرًا لأن موسكو تعد واحدة من أهم بلدان العالم صنعًا للأسلحة، فقد ظهرت الطائرات المسيرة الروسية من نوع "طائرات كاميكازي" (الدرونز الانتحارية) في هذا النزاع وتُعرف أيضًا باسم "الذخيرة المتسكعة"، وهذه المسيرات استخدمها الطرفان الروسي والأوكراني، وذلك لقدرتها على ضرب أهداف على بعد مئات الكيلومترات بدقة، فهي تحدد الهدف قبل الانقضاض عليه وعندما تدمره تنفجر، فهي تعمل بعكس الطائرات المسيرة التي تعود إلى قواعدها بمجرد إطلاق حمولتها من الصواريخ، بمعنى أنها سلاح يستخدم لمرة واحدة، كما أنها تعد بديلًا أرخص مقارنة بصواريخ "كروز"، كما أنها صغيرة ومحمولة ويمكن إطلاقها بسهولة، لكن ميزتها الرئيسية، هي أنه يصعب اكتشافها ويمكن إطلاقها من مسافة بعيدة والتحكم فيها بسهولة، كما استخدمت موسكو في مارس الماضي طائراتها المسيرة محلية الصنع من نوع "Orlan-10"، والتى تؤدى مهام الاستطلاع وتتبع الأجسام بعيدة المدى والمحلية التي يصعب الوصول إليها، هذا بجانب طائرة مسيرة روسية تتمتع بقدرات ذاتية وذكاء صناعي تُسمى "لانسيت" (LANCET).
(*) الطائرات المسيرة أمريكية الصنع: قدمت واشنطن أيضًا مجموعة من المساعدات العسكرية إلى أوكرانيا، حظيت الدرونز الأمريكية "سويتش بليد" (Switchblade) بجزء منها، إذ أرسلت في أبريل الماضي نحو 500 طائرة بدون طيار من طراز AeroVironment Switchblade المعروفة بـالدرونز المتوسطة "سويتش بليد 600"، كما أرسلت 100 طائرة بدون طيار في مارس الماضي من طراز AeroVironment Puma المعروفة بـالدرونز الخفيفة "سويتش بليد 300"، لمساعدة الجيش الأوكراني، وزودت واشنطن القوات الأوكرانية أيضًا بأكثر من 120 طائرة مسيرة يُطلَق عليها اسم "Phoenix Ghost" أو "شبح العنقاء"، وهذا النوع يُستخدم لمرة واحدة، وقادر على استهداف الأهداف الأرضية المتوسطة الحجم، وتستطيع العمل خلال الليل باستخدام أجهزة استشعار الحركة بالأشعة تحت الحمراء.
أدوار تكتيكية:
قامت المسيرات بأدوار هامة وحاسمة خلال الأزمة الروسية الأوكرانية، ورغم أنها لن تلعب فارقًا كبيرًا في تغيير مسار الأزمة، إلا أنها ستجعل الأمر صعبًا على الروس في تحقيق مكاسب عاجلة، ويمكن تناولها على النحو التالي:
(*) عرقلة التحركات الدفاعية: ركز الطرفان الروسي والأوكراني في استخدامهما للدرونز على استهداف الخطوط الأممية في المواجهات، كإصابة المدرعات واستهداف مخازن الأسلحة والذخيرة، إذ تمكنت موسكو في بداية النزاع من تدمير 3 مطارات عسكرية لكييف وتعطيل عمل سلاح الجو الأوكراني.
(*) رصد تحركات قوات العدو: استخدمت الدرونز في رصد أماكن الأهداف الحيوية التي يمكن استهدافها وتوجيه نيران المدفعية نحوها، لشل تحركات الطرف الآخر، حيث رصدت المسيرات أماكن القوافل الروسية ونقلت الصور وإحداثياتها للقوات الأوكرانية، كما ساهمت في الوقت ذاته في توفير ونشر صور ومقاطع فيديو للضربات الأوكرانية.
(*) تنفيذ هجمات ضد أهداف حيوية واستراتيجية: لعبت الدرونز دورًا في استهداف عدد من الأهداف الحيوية، خاصة في أوكرانيا، من بينها، البنايات المدنية في "بيلا تسيركفا" بجنوب العاصمة كييف، وهاجمت مواقع حساسة بمدينة زباروجيا في محيط المفاعل النووي، ومواقع أخرى في أوديسا الساحلية بالجنوب الغربي. إضافة إلى استهداف المدنيين بعيدًا عن خط المواجهة، بهدف التأثير على الحالة النفسية للمواطنين من ناحية وصناع القرار على الأرض من ناحية أخرى.
تأثيرات مستقبلية:
وفي إطار ما تقدم، تجدر الإشارة إلى أن المسيرات لعبت حتى الآن دورًا فاعلًا في تحديد مواقع أهداف العدو بالنسبة للجانبين الروسي والأوكراني، ولهذا سيكون لها تأثير على حروب القرن الحادي والعشرين، وعليه يمكن رسم ملامحها المستقبلية على النحو التالي:
(*) سباق دولي لاقتناء "الدرونز": ستشهد الفترة المقبلة اتجاه عدد متزايد من الدول إما لشراء هذا النوع من الطائرات بدون طيار، أو تطوير ما لديها حتى تواكب التطورات المستقبلية، وسيزيد اعتماد الدول على المسيرات نظرًا لتكلفتها المنخفضة، فهي تعد رخيصة مقارنة بالطائرات المقاتلة باهظة الثمن من ناحية، وقدرتها العسكرية والدفاعية على تحديد أهداف العدو واعتراضها بسرعة .
(*) تطوير الدرونز للقيام بمهام فريدة: ستركز دول العالم فيما بعد على استخدام الطائرات بدون طيار، ليس فقط في وقت الحرب أو جوًا، وإنما ستوجه للعمل في وقت السلم وبالتركيز على العمل برًا، من خلال الاشتباك مع الخطوط الأمامية للعدو، وجعلها قادرة على الاستشعار الأمامي وللتخفيف من خسائرها البشرية، وهو ما سيجعل تلك المسيرات بديلًا للطائرات الاستطلاعية التقليدية، وفي الوقت ذاته قد يتم الاتجاه إلى توجيه عمل الدرونز لتنفيذ «حرب إلكترونية» التشويش على رادارات العدو وأجهزته الإلكترونية واختراق أنظمته الدفاعية، بالإضافة إلى تطويرها كي تستخدم في إنشاء حقول ألغام جوية.
(*) تكثيف أنشطة التعاون بين الدول في مجال "الدرونز": قد تشهد الفترة المقبلة تنامي مجالات التعاون الصناعي العسكري، لجعل المسيرات "السلاح الرئيس" لمواجهة التنظيمات الإرهابية، خاصة التي تهدد أمن واستقرار المنطقة، وهذا بتبادل الخبرات في المجال التكنولوجي.
وتأسيسًا على ماسبق، يمكن القول إنه رغم استخدام المسيرات في بعض الحروب التي اندلعت بين الدول بـ(اليمن، ليبيا، سوريا، وناجورنو كارباخ) وتحديدًا في السنوات الخمس الماضية، إلا أن الاعتماد عليه بشكل رئيسي في الأزمة الروسية الأوكرانية أكد أنها "سلاح المستقبل" الذي يشكل تهديدًا حقيقيًا للدول، الأمر الذي يستوجب وضع القوانين اللازمة لتقنين عملية استخدام هذا النوع من الطائرات، وضمان عدم وقوعه في يد الجماعات الإرهابية التي ستعتمد عليها بشكل رئيسي لتحقيق أهدافها.