شهدت القارة الأوروبية خلال عام 2022 تطورًا واضحًا في نمو التيارات المتطرفة، والتى تندرج تحت سياسة التيارات اليمينية واليمينية المتطرفة، في إشارة واضحة إلى تزايد نفوذ هذه التكتلات في القارة العجوز بصورة واضحة.
وقد يؤدي هذا الأمر الى تغيير جذري في سياسة الاتحاد الأوروبي، وخاصة أن هذه التيارات تؤمن بمركزية الدولة، بل ويعمل بعضها لتبني فكرة تفكك الاتحاد الأوروبي والشروع لسلك طريق "البريكست" خلفًا لبريطانيا، وفي حال اجتمعت هذه التيارات لسلك طريق "الطلاق" الأوروبي في وقت تواجه فيه القارة تداعيات الحرب الروسية- الأوكرانية، فضلًا عن الأزمات الاقتصادية الطاحنة التى أخذت تضرب الدول الغربية فإن الأمر قد يؤدي إلى خطر كبير يواجه القارة العجوز.
بداية الصعود
شكّلت الحرب الأوكرانية العديد من الأحداث التي أعقبتها تحولات وأزمات اقتصادية واجتماعية، ومن تداعيات هذه الحرب نشوء أزمة الطاقة التي كشفت السياسات الأوروبية في مجال تأمين مصادرها من الطاقة، فوجدنا أن روسيا استحوذت منفردة على نسبة 40% من الغاز الطبيعي المستهلك في أوروبا، وهذا ما أثار الأسئلة إزاء السياسات التي تؤمّن الحماية الاستراتيجية للاتحاد، التي وضعته اليوم تحت رحمة أي قرار روسي من شأنه أن يزود أوروبا بحاجتها من مصادر الطاقة أو عدمه.
هذا بجانب التكلفة الباهظة التي تتكبدها الدول الأوروبية لدعم كييف، فبالرغم من يقينها أنها تعاني من ارتفاع تكاليف الحياة، فإنها تصر على استمرار دعم أوكرانيا على حساب المواطن الأوروبي، وربما ينبع هذا الإصرار على الدعم من منطلق الإحساس بالذنب من عدم التدخل والوقوف بوجه روسيا عام 2014 عند الاستيلاء على شبه جزيرة القرم.
لهذا، انعدمت ثقة الشارع الغربي بحكوماته المتمثلة في أحزاب يمين الوسط ويسار الوسط التي تسيطر على المشهد السياسي، والتي يرون أنها ولعقود لم تستطع حل مشكلات القارة الأوروبية والدفع بتحسين حياة الناس للأفضل، ما دفعهم إلى الاستنجاد باليمين واليمين المتطرف لإنقاذهم مما هو قادم، حتى لو وصل الأمر إلى الانسحاب من الاتحاد الأوروبي وتفكيكه تمامًا لأجل مصلحة كل دولة، وبالفعل، شهدت الانتخابات الأخيرة في معظم الدول الأوروبية تقدمًا واضحًا لتكتلات اليمين واليمين المتطرف في دول عدة أبرزها إيطاليا وبولندا والمجر، ما يثير مخاوف من تأثير هذه التوجهات على سياسة التكتل الأوروبي ومستقبله، لا سيما فيما يتعلق بالحرب في أوكرانيا وتطوراتها.
وأخيرًا، ظهرت دعوات في عدة دول أوروبية، كألمانيا والنمسا والتشيك وإيطاليا وفرنسا، ضد سياسة التعامل مع المشكلات الاقتصادية ودعم أوكرانيا تحت شعار "منح السلام فرصة"؛ إذ تحث هذه التظاهرات والوقفات الاحتجاجية المتكررة الحكومات على أن تسعى بكل جهد لدفع الجهتين الروسية والأوكرانية نحو التفاوض من أجل إحلال السلام، وتخفيف العقوبات الروسية التي يرون أنها فشلت في تحقيق مساعيها، وتوفير تكلفة تمويل أوكرانيا من الأسلحة لصالح شعوب أوروبا التي تعاني بالفعل، والاكتفاء بالمساعدات الحالية التي يرون أنها تكفي بالفعل وزيادة. وبين مؤيدين للدعوات ومعارضين كثر لها، نجد أن تصاعد الخلافات في منطقة اليورو في ملف العقوبات على موسكو، يعتبر فرصة لروسيا للحد من العقوبات.
عام الاختلاف
وفي الانتخابات العامة في السويد، سبتمبر الماضي، أظهرت النتائج تقاربًا كبيرًا بين اليسار واليمين المتشدد، لدرجة أن النتيجة النهائية أصبحت مرهونة بمقعد أو مقعدين فقط، وقد نجح تحالف المعارضة اليميني بالأغلبية الضئيلة لكن يبقي المشهد السياسي النهائي في السويد والتى كانت تعرف بـ"جنة المهاجرين" مؤشر قوي لتغير الأوضاع السياسية في القارة الأوروبية.
وفي الانتخابات الفرنسية عام 2022، صعد تيار اليمين المتطرف بقيادة زعيمة حزب "التجمع الوطني" مارين لوبان وحصل على 41.45% من أصوات الناخبين مقابل نسبة لا تتعدى 34% خلال انتخابات 2017.
وبالرغم من خسارة لوبان الانتخابات الرئاسية الفرنسية، إلا أنها أسهمت في وصول اليمين المتطرف إلى أبواب السلطة، ولا ننسى ظهور الحزب الأكثر تطرفًا على الساحة الفرنسية بقيادة إريك زمور، والذي يتبنى طرد المهاجرين، ويصفهم بأنهم وراء أزمات فرنسا، طارحًا استرداد فرنسا من غير الفرنسيين معتبرًا إياها كـ"الرهينة"، ولهذا أصبح اليمين المتطرف بذلك متفوقًا على اليسار بكل أطيافه، ما يعني تغيرًا في الخريطة الانتخابية وأيضًا في المزاج العام للناخبين.
وفي إيطاليا، يتوزع تيار اليمين المتطرف على عدة أحزاب، وهي حركة النجوم الخمس وحركة رابطة الشمال وحزب فورزا إيطاليا.
وفي الانتخابات التشريعية لعام 2018، حصلت هذه الأحزاب على32.7% و17.4% و4.4% من الأصوات، على التوالي. وعقب الانتخابات، شاركت الأحزاب الثلاثة في حكومة ائتلافية لم تدم سوى ثلاثة أشهر، لتتشكل حكومة ائتلافية جديدة بمشاركة حركتي "الرابطة والنجوم الخمس" في يونيو 2018، لتسقط لاحقًا في أغسطس 2019، وتقود حركة النجوم الخمس الشعبوية حكومة ائتلافية جديدة بمشاركة أحزاب يسار-الوسط، لتُستبدل بها حكومة وحدة وطنية في فبراير 2021. ما يجعلها أول أحزاب البلاد.
وفي يوليو 2022، وبعد استقالة رئيس الوزراء الإيطالي ماريو دراجي وحل البرلمان، وتحديد موعد للانتخابات المبكرة في 25 من سبتمبر؛ بدأت الأحزاب السياسية وخاصة اليمينية منها حملاتها الانتخابية بما فيها حركة "إخوة إيطاليا الفاشية" كذلك حزب "إخوة إيطاليا" المتشدد، وكان فوز جورجيا ميلوني زعيمة حزب "إخوة إيطاليا" في الانتخابات التشريعية زلزالا سياسا كبيرا ليس فقط في إيطاليا بل في أوروبا كلها.
وفي المجر أعقاب انتخابات في 3 أبريل الماضي، احتفظ حزب فيدس اليميني المتطرف، بأغلبية الثلثين العظمى في الجمعية الوطنية، وحصل على (135) مقعدًا من أصل (199) مقعدًا متاحًا. وهذا يعادل (53.1%) من إجمالي الأصوات ، بزيادة قدرها (+3.8%) منذ الانتخابات العامة في أبريل 2018.
روسيا والتيارات المتشددة
لا يمكن إنكار أن شعبية بوتين تتزايد منذ زمن بعيد لدى تيارات اليمين المتطرف بل إن الرئيس الروسي عمل على دعم تلك التيارات في بعض الدول مثل فرنسا وزعيمة حزب "التجمع الوطني" مارين لوبان، كما ينظر إلى بوتين باعتباره "القائد الفعلي" لتجمع دولي يضم المحافظين المتشددين والداعمين لمبادئ القومية، بجانب أنه من وجهة نظرهم هو الأكثر نجاحًا دون مساومة في حماية القيم الأوروبية وتطبيق الأجندة والمثل العليا الخاصة بهم؛ إذ أنشأ دولة متطورة تمتلك أسلحة نووية، لا تتسامح مع أي انتقاد، وهو كذلك لا يحبز وجود المثليين ويقدم نفسه على أنه بطل الحضارة الغربية المسيحية، لكن التيارات اليمينية المتشددة تزيد عنه رفضها للمهاجرين وكل ما هو ليس تابعًا لعرقهم أو للمبادئ المسيحية الأوروبية وثقافتها.
وعلى الرغم من عدم وجود تنسيق عملي بين السياسيين اليمنيين المتشددين وبوتين بشكل مباشر، فإنه يمكن القول إن لديهم ما يشبه "التقاء الأفكار البوتينية والإعجاب بها"، ويأتي في مقدمتها الاتفاق على أن الاتحاد الأوروبي وحلف الناتو الخصم المشترك، وأنهما القوى المناوئة التي تسعى إلى تقويض نفوذها، فبعض التيارات السياسية الأوروبية ترى أن وجود هذا الاتحاد قد عمل على سلب السيادة من الدول الأعضاء في أوروبا.
وحرصت روسيا على دعم اليمين واليمين المتطرف داخل القارة العجوز، وذلك من خلال الزيارات السياسية، عبر دعوة رموز وقادة هذا التيار لزيارة روسيا، ومساندتهم إعلاميًا من خلال ظهورهم في وسائل الإعلام الروسية، والتنسيق معهم والتفاهم حول عدة قضايا، ما يثبت أن التعاون اليميني مع روسيا هو بمثابة بادرة نحو التعاون السلمي.
ولم يقتصر الأمر على الزيارات، فقد حرصت روسيا أيضًا على تقديم الدعم المالي، فعلى الرغم من صعوبة تتبع مسارات التمويل الروسي لقوى اليمين المتشدد في أوروبا، إلى أن كشفت العلاقة بين حزب الجبهة الوطنية الفرنسي وموسكو -على سبيل المثال- عن تداخل عنصر المال في معادلة الدعم الروسي للقوى اليمينية الأوروبية، ما يعني أن موسكو قد وظفت تحالفها مع هذا التيار لخدمة مصالحها بشكل أو بآخر، وسعت نحو تحقيق رؤيتها للنظام الدولي كنظام يعترف بمناطق النفوذ الروسي.
كما عملت الحرب الروسية الأوكرانية لاعطاء فرصة قوية لهذه التيارات ونجاحها في زعزعة ثقة الشعوب في حكوماتها اليسارية والوسطية.
كذلك عملت التيارات اليمينة الأوروبية على إعلان رفضها للدعم المادي والعسكري المقدم لأوكرانيا، كذلك التبرير لحرب موسكو بأن لديها وجهة نظر من هذه الحرب، ويجب احترامها، أو التأكيد بأن روسيا اختارت أن تقف في وجه العولمة التي تقودها الولايات المتحدة.