شهد شهر أغسطس 2022 زيارة نانسي بيلوسي، أكبر مسؤول أمريكي منتخب، جزيرة تايوان، خلال ربع قرن، هي زيارة أحاط بها الجدل وكشفت عن خلفية علاقة مشحونة بشكل متزايد بين الولايات المتحدة والصين، قطبي العالم الجديد، كما يطلق عليهم المحللون في الولايات المتحدة.
أزمة خطيرة وتصعيد
ساهمت التكهنات في الفترة التي سبقت زيارة نانسي بيلوسي، رئيسة مجلس النواب الأمريكي، تايوان، في خلق جو مثير للقلق، حذر فيه العديد من الخبراء والمحللين من أزمة خطيرة، هددت بالتصعيد إلى مواجهة عسكرية بين الولايات المتحدة والصين، وبحسب "مركز الولايات المتحدة للسلام" USIP، فالزيارة لا تخلو من سابقة، إذ يسافر أعضاء الكونجرس بشكل روتيني إلى تايوان، على الرغم من أن آخر رئيس لمجلس النواب الأمريكي زار الجزيرة كان نيوت جينجريتش، في عام 1997.
وبصرف النظر عن الضجة التي صاحبت الزيارة، والاهتمام المكثف الذي تركز عليها، فهي تخبرنا عن حالة العلاقات بين الولايات المتحدة والصين، وبحسب "مركز الولايات المتحدة للسلام"، فإن هناك نقاطًا تتبادر إلى الأذهان، أولًا: أوضحت الزيارة المكانة المركزية والمثيرة للجدل التي تحتلها تايوان الآن في العلاقات بين الولايات المتحدة والصين، ثانيًا: الرؤية العامة التي تدركها واشنطن وبكين، تجاه توازن القوى والعلاقات، تعد أكثر أهمية من أي تفاصيل إيجابية قد تحدث، وثالثًا: إن الأحداث المحورية يمكن أن تصبح نقطة تحول في العلاقات بين الولايات المتحدة والصين، لتصبح الحدث الذي يضع بكين على مسار الحرب.
تايوان.. مركز الصدارة في العلاقات الأمريكية الصينية
في عام 2022، كانت تايوان هي "نقطة الصفر" في منافسة القوى العظمى المتزايدة بين الولايات المتحدة والصين، في حين أن الجزيرة كانت لفترة طويلة القضية الأكثر إثارة للجدل في العلاقات بين الولايات المتحدة والصين، وموقع الأزمات المتعددة خلال الخمسينيات، في أعقاب زيارة الرئيس الأمريكي ريتشارد نيكسون، الصين في عام 1972، عملت واشنطن وبكين بجد لإدارة قضية تايوان، وبإصرارها على أن تايوان جزء من الصين، طالبت بكين واشنطن بتبني سياسة "صين واحدة" كشرط مسبق للتقارب.
وحاولت الإدارات الأمريكية المتعاقبة الموازنة بين تجنب العداء غير المبرر للصين، إذ سعت في الوقت نفسه إلى تقديم الدعم المستمر لتايوان، حتى أقامت واشنطن وبكين علاقات دبلوماسية رسمية في عام 1979، واحتفظت واشنطن بعلاقات على مستوى السفراء مع تايبيه المعترف بها رسميًا باسم "جمهورية الصين"، وبعد ذلك حافظت واشنطن على علاقات شبه رسمية مع "تايبيه" بموجب "قانون العلاقات مع تايوان" TRA، الذي أقره الكونجرس، عام 1979.
علاقات حكيمة وإيجابية
وفي حين أن معظم الأمريكيين ينظرون إلى العلاقات الأمريكية المستمرة مع تايوان باعتبارها حكيمة وإيجابية، ما يوفر الاستقرار في مضيق تايوان، فإن معظم الصينيين يرون أن الإجراءات الأمريكية تتعارض مع روح، إن لم يكن نص الالتزامات الأمريكية الرسمية المتعددة بمراعاة سياسة "صين واحدة"، فمن وجهة نظر بكين، تجاهلت واشنطن ثلاثة بيانات رسمية أمريكية صينية، ما دفعها إلى الاعتقاد بأن الإدارات المتعاقبة كانت تتفاوض بنية سيئة، ومن وجهة نظر واشنطن.
كانت الالتزامات الأمريكية مشروطة، فالرؤساء الأمريكيون لم يؤيدوا أبدًا مواقف الصين تجاه تايوان، بل اعترفوا بها فقط، بشروط، بمعنى أن واشنطن توقعت أن تقيم بكين العلاقات مع تايوان بسلام ودون إكراه، وتم التعبير عن هذا التوقع بشكل واضح في "قانون العلاقات مع تايوان": "السلام والاستقرار في المنطقة هما من المصالح السياسية والأمنية والاقتصادية للولايات المتحدة، وهما من الأمور ذات الاهتمام الدولي، وعلاوة على ذلك، يعتمد قرار الولايات المتحدة بإقامة علاقات دبلوماسية مع جمهورية الصين الشعبية على توقع أن مستقبل تايوان سيتقرر بالوسائل السلمية".
اتجاهات ترامب والأحداث الفردية
مع التركيز الأمريكي الكبير على المزايا المحددة لزيارة بيلوسي تايوان، ما يمكن التغاضي عنه هو أنه لا بكين ولا واشنطن تنظر إلى هذه الحلقة البارزة من فراغ، إذ ينظر الطرفان إلى الحدث على أنه جزء من اتجاهات أوسع في السياسات المتوقعة من الطرف الآخر، فكل جانب يشدد على أهمية الحفاظ على الوضع الراهن حيال تايوان بينما يلوم الجانب الآخر على الجهود المركزة لتغيير الوضع الراهن، بينما في العقود السابقة، أدركت كل من واشنطن وبكين أن الاتجاهات في العلاقات الثنائية تتحرك بالاتجاه الصحيح وحملتا صورًا إيجابية عامة للطرف الآخر، ومنذ تسعينيات القرن الماضي، بدأ كل جانب في إدراك الاتجاهات التي تسير في الاتجاه الخاطئ وتشكلت بشكل متزايد، وعمل على تجنبها.
الصور السلبية للآخر
تشير الأبحاث التي أجراها "معهد الولايات المتحدة للسلام" إلى أن الصين تدرك أن إدارة بايدن، أجرت تحولًا كبيرًا في سياستها بشأن تايوان، مما أدى إلى تضافر الجهود لرفع مستوى العلاقات الأمريكية مع الجزيرة نوعيًا، وهذا التصور هو عكس الرسالة التي قصدت إدارة بايدن توجيهها إلى بكين، هي أن سياسة الولايات المتحدة بشأن تايوان لم تتغير وتتفق تمامًا مع نهج الإدارات السابقة، فلا داعٍ لسوء التفسير، فالإشارات والرسائل الواضحة أمر صعب للغاية في ظل المناخ السام الحالي للعلاقات الأمريكية الصينية، والمليء بالشكوك المتبادلة وانعدام الثقة.
نقطة التحول القادمة
وعلى الرغم من تلك الاتجاهات، فالحذر يجب أن يكون من نقطة تحول في المستقبل، وهي حدث قد يدفع بكين لاتخاذ إجراء عسكري ضد تايوان، وتشير نقطة التحول إلى نقطة زمنية قد تحدد فيها بكين مسار تايوان، بعيدًا عن سياسة التوحيد طويلة الأمد، وتقرر أن استراتيجيتها في "إعادة التوحيد السلمي" قد فشلت، وأن الوقت قد حان للتركيز على التوحيد بالقوة، ويمكن العثور على ملامح لنقطة التحول هذه في الخطاب الرسمي الصيني، وليس من كلمات أو أفعال أي شخص في تايبيه أو واشنطن.
ويكون تحديد نقطة التحول هذه في الوقت الفعلي أمرًا صعبًا للغاية، لا سيما بالنظر إلى الطبيعة الغامضة والسرية لعمليات التداول وصنع القرار في الصين، وفي الواقع من المحتمل أن تكون نقطة التحول واضحة فقط بأثر رجعي، أو بعد فوات الأوان.
توقعات الخبراء
على الرغم من أن التحذيرات من زيارة "بيلوسي" تايوان، ربما شابها بعض المبالغات، إلا أن الشعور العام الذي يقف وراءها لم يكن في غير محله، ففي أعقاب رحلة بيلوسي مباشرة، بدأت الصين سلسلة من التدريبات العسكرية الضخمة في مواقع متعددة بمحيط تايوان، وألغت أو علقت بعض الاتصالات مع الولايات المتحدة، وأعلنت أنه سيتم فرض عقوبات غير محددة على "بيلوسي" وعائلتها، وكان القصد من مجموع هذه الإجراءات الإشارة إلى شدة غضب قادة الحزب الشيوعي الصيني، لكن في نفس الوقت تم ضبط هذا الغضب، لتجنب المزيد من التصعيد لكن اللعبة لا تزال خطيرة، لأن تايوان هي النقطة المحورية لمنافسة القوى العظمى المتزايدة والموقع الأكثر منطقية، الذي يمكن أن يؤدي إلى مواجهة عسكرية كبيرة بين الولايات المتحدة والصين.
اللحظة الحرجة
وترى كل من واشنطن وبكين أن توجهات السياسات في العلاقات الثنائية تجاه تايوان تتحرك بالاتجاه الخاطئ، وكل منهما يلوم الآخر على التحريض على هذا المسار الخطير، والأمر الأكثر خطورة هو أن بكين تصل قريبًا إلى اللحظة الحرجة فيما يتعلق بتايوان، أو ربما وصلت بالفعل إلى هذه النقطة ولا يزال يتعين على واشنطن الاعتراف بذلك ومراعاته.
ويحدد الباحثون والمحللون المستقبليون نقطة التحول في تايوان ببكين، على أنها زيارة بيلوسي الجزيرة في أغسطس 2022، لكن في أعقاب الزيارة مباشرة، يجب أن يركز الاهتمام الدقيق على المراقبة الدقيقة للخطاب والإجراءات الصينية، فضلًا عن الرسائل الأمريكية الواضحة والمتسقة، هذا الجهد ضروري إذا أراد البلدان تجنب التصعيد غير المقصود والحرب غير المرغوب فيها خلال الأسابيع والأشهر والسنوات المقبلة.