تسببت الخلافات حول استبدال اللوحات المعدنية الصربية بأخرى من كوسوفو في احتجاج كبير من المواطنين ذي الأصول الصربية، أسفر عن مواجهات مع الشرطة الكوسوفية نتيجة غلق الطرق في المناطق الشمالية، في وقت حذرت فيه رئيسة وزراء صربيا من نشوب نزاع مسلح بعد فشل المفاوضات التي يرعاها الاتحاد الأوروبي بين بلجراد وبريشتينا.
وفي ظل احتجاج الآلاف من صرب كوسوفو، وتحذير رئيسة وزراء صربيا من نزاع مسلح في كوسوفو، وتوجيه الجيش بالانتشار على طول خطوط التماس مع كوسوفو، التي أعلنت استقلالها من جانب واحد في 2008، بيد أن حلم الاستقلال لم ينهي الأزمة بين الكيان الذي يغلب عليه المكون الألباني، والمكون الصربي في الشمال، وهو ما يطرح سؤال: إلى أين تتجه الأوضاع في الداخل الكوسوفي؟
متوالية الأزمة:
احتجت مجموعات من صرب كوسوفو على قرار سلطات بريشتينا مطلع أغسطس 2022 بوقف العمل باللوحات المعدنية التي تحمل أرقامًا صربية وإصدار لوحات كوسوفية في غضون 60 يومًا، وأغلقت معبرين حدوديين مع صربيا على خلفية إطلاق نار من الجارة الشمالية، كما فرضت على مواطني صربيا الحصول على وثيقة صادرة عن جمهورية كوسوفو، أسفرت عن إعلان المسئولون الصرب في البلديات والشرطة والمرافق العامة استقالتهم.
ويمكن استعراض فصول الأزمة المتصلة بملف العلاقات المعقدة بين بريشتينا وبلجراد، على النحو التالي:
(*) أزمات اللوحات المعدنية: رغم تعليق الحكومة العمل بالإجراء بعد تدخل الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة، إلا أن اعتقال أحد عناصر الشرطة من أصول صربية بتهمة إطلاق النار على دوريات الشرطة من المكون الألباني الذين دفعت بهم السلطات في نوفمبر 2022، عقب انسحاب 600 شرطي من المكون الصربي من وظائفهم، وتعزيز بريشتينا إجراءاتها بتحديد موعد الانتخابات البلدية شمال البلاد في 18 ديسمبر الجاري، قادت لتصعيد الاحتجاجات في 10 ديسمبر 2022، باتجاه السكان المحليين لوضع المتاريس وإعاقة المرور، بالتوازي مع إعلان حزب "القائمة الصربية" القريب من بلجراد، مقاطعة الانتخابات، قبل أن تعلن رئيسة كوسوفو فيوسا عثماني تأجيلها إلى أبريل 2023.
(*) تحييد بلجراد: احتجت السلطات الصربية على اختيار رئيس الوزراء الكوسوفي ألبين كورتي، مطلع ديسمبر الجاري، رئيس الحزب الديمقراطي التقدمي نينادراشيتش وزيرًا للمجتمعات والعودة، وهو الوزير الصربي المسئول عن شئون الأقليات، وتعيين أبرز خصوم حزب القائمة الصربية، رادا ترايكوفتش، مستشارًا له. ويتهم سفير كوسوفو في واشنطن إلي ردوجولي، صربيا، بتأجيج وإشعال الاضطرابات في كوسوفو والجبل الأسود والبوسنة والهرسك. وفي 15 ديسمبر 2022، وقع رئيس الوزراء الكوسوفي ألبين كورتي طلب الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي.
(*) صربيا تطلب التدخل: على خلفية الاستقالات الجماعية والمواجهات بين أفراد من الأقلية الصربية وشرطة كوسوفو بالمناطق الشمالية، نقلت وكالة رويترز في 16 ديسمبر الجاري عن الرئيس الصربي ألكسندر فوتشيتش طلبه من بعثة حلف الناتو المعنية بحفظ السلام، السماح بدخول ألف فرد من الجيش والشرطة الصربيين إلى شمال كوسوفو، لأول مرة منذ تدخل قوات الحلف لإنهاء الحرب بقرار مجلس الأمن الدولي. رافق الإعلان تأكيد مسبق من "فوتشيتش" أن إجابة بعثة الناتو على طلبه لن يكون إيجابيًا. وفي 21 ديسمبر حذرت رئيسة حكومة بلجراد آنا برنابيتش، من تحول الوضع في شمال كوسوفو إلى صراع مسلح نتيجة الإجراءات الأحادية من بريشتينا، ونقلت وسائل إعلام محلية عن برنابيتش اتهاماتها لحكومة كوسوفو بمعاداة المواطنين من غير العرقية الألبانية، ومخالفة اتفاق بروكسل 2013. وفي خضم التوتر، أصدر الرئيس فوتشيتش، مساء الأحد 25 ديسمبر، أمرًا لقائد الجيش ميلان مويسيلوفيتش، بالتوجه إلى الجنوب "وتعزيز تواجد الجيش على طول الخط الإداري مع كوسوفو"، حسب تصريحات مويسيلوفيتش لقناة محلية.
تحديات محتملة:
ترتبط الأوضاع في كوسوفو بالحرب الروسية الأوكرانية، حيث تلاقت مساعي كييف وبريشتينا للانضمام إلى الاتحاد الأوروبي والالتحاق تباعًا بالمنظومة الغربية سياسيًا واقتصاديًا وأمنيًا، في مواجهة دعم روسيا وصربيا للأقليات العرقية في كلا الجانبين، لكن اختلافًا رئيسيًا يظهر في الحالة الأخيرة، إذ تعتبر بلجراد، كوسوفو إقليمًا صربيًا يتمتع بالحكم الذاتي، تبعًا لقرار مجلس الأمن الدولي 1244 لسنة 1999. إلا أن كوسوفو اتجهت لإعلان انفصالها من جانب واحد في 2008 وحظيت بدعم الولايات المتحدة وأغلب الدول الأوروبية، بناء على توصية من المبعوث الخاص للأمين العام للأمم المتحدة مارتي أهتيساري في2007 أن الوضع النهائي لكوسوفو ينبغي أن يكون الاستقلال، بعد خضوعها للفصل السابع من ميثاق الأمم المتحدة وخروجها عمليًا عن السلطة المباشرة لصربيا، حسب ورقة لكلية لندن للاقتصاد والعلوم السياسية.
بيئة محفزة:
تأسيسًا على ما سبق، يمكن القول إن هشاشة الوضع في كوسوفو، قد يساعد في تأجيج الأزمة، وتفجيرها بين الحين والآخر، ويمكن حصر تحديات البيئة الداخلية في كوسوفو على النحو التالي:
(*) تاريخية الأزمة: لا يزال الصراع بين الصرب والألبان حاضرًا في ذاكرة كلا الطرفين وناتج عن إيقاظ العداوات التاريخية، وهو ما ظهر في حديث السفير الكوسوفي في واشنطن إلى مجلة "نيوز ويك" الذي اتهم الرئيس الصربي ألكسندر فوتشيتش بالحفاظ على إرث الرئيس الأسبق سلوبودان ميولوسيفيتش الذي قاد الحرب في كوسوفو عامي 1998 و1999، حيث كان وزيرًا للإعلام حينها، فيما كان رئيس الوزراء الكوسوفي ألبين كورتي سجينًا سياسيًا سابقًا.
(*) الجغرافيا السياسية الرخوة: على الرغم من تجمد الصراع لفترة كبيرة في ظل وجود قوة حفظ سلام بقيادة حلف الناتو يبلغ قواتها نحو 3700 فرد، إلا أن الحرب الروسية الأوكرانية أحيت تلك التوترات وأثبت ضعف تماسك منطقة غرب البلقان مع طغيان الهويات الفرعية (العرقية) على الانتماء الوطني، خاصة في كوسوفو التي لم تستطع بلورة هوية وطنية جامعة، حيث ظلت الشرطة في المناطق الصربية (شمال ميتروفيتشا، وزوبينبوتوك، وليبوسافيتش، وزفيتشان) بعيدة عن سلطة الشرطة الكوسوفية، وحافظ كثير من المكون الصربي سياسيًا وشعبيًا على العلاقات مع بلجراد ورفضوا أي إجراءات من شأنها تكريس الانفصال. وعلى الجانب الآخر مالت النخبة الحاكمة في كوسوفو والمكون الألباني عمومًا إلى التقارب مع ألبانيا، وذكر ألبين كورتي في مقابلة تلفزيونية مع قناة "يورو نيوز" عقب فوز حزبه "تقرير المصير" منتصف فبراير 2021، أنه في حال إجراء استفتاء حول انضمام كوسوفو إلى ألبانيا سيصوت بنعم. وعلى الرغم من الصبغة الدعائية للتصريح إلا أنه يثير مخاوف دول مجاورة تتخوف من ظهور دولة مُتخيَّلة تسمى "ألبانيا الكبرى"، كما سيضغط ارتباط العرقية الصربية بجمهورية صربيا، على خيارات الساسة الكوسوفيين الطامحين للاستقلال باتجاه نزع أي روابط قومية مع بلجراد.
(*) الموقف الأوروبي: بموجب اتفاق بروكسل 2013، يشرف الاتحاد الأوروبي على تيسير المفاوضات بين الجانبين، وانتبه الجانب الأوروبي مؤخرًا لمنطقة غرب البلقان التي تشهد تنافسًا بين عدد من القوى على النفوذ في أعقاب الحرب الروسية الأوكرانية، مما عزز مخاوف بروكسل من تأثير ذلك على الأمن الأوروبي، وأسهم في إطلاق آلية المجتمع السياسي الأوروبي كبديل للدول الأوروبية غير العضوة في الاتحاد الأوروبي. لكن التحركات الأوروبية لا تزال محدودة وغير كافية للحفاظ على السلام والاستقرار في تلك المنطقة، في ظل محدودية أدوات الضغط، حيث تستغرق عملية انضمام تلك الدول إلى الاتحاد سنوات عدة، وفقدان دول (مثل صربيا بالتحديد) الأمل بعضوية الاتحاد نتيجة الموازنة بين علاقاتها مع روسيا من جانب، والغرب والقوى الأوروبية من آخر. وعلى الجانب الآخر لا تحظى قضية كوسوفو بإجماع أوروبي، مما يعرقل إجراءات انضمامها للاتحاد مع عدم اعتراف 5 دول هي قبرص واليونان وإسبانيا ورومانيا وسلوفاكيا، نظرًا لمخاوفها من حوادث انفصال من جانب واحد.
وإجمالًا؛ أسهمت الحرب في أوكرانيا في إحياء المشاعر القومية وتشديد التمسك بالروابط العرقية في منطقة غرب البلقان التي تشهد تحديات أمنية نتيجة طغيان الهويات المناطقية والأولية، خاصة في كوسوفو التي لا تزال حائرة بين الانفصال كدولة وطنية جامعة أو الخضوع لسيادة صربيا أو مواجهة خيار الحرب والتفكك. ويحتاج الموقف الدولي مزيدًا من الدعم لجهود الحوار بين الجانبين لدعم السلام والاستقرار ودمج العناصر الصربية في قطاع الشرطة مع الحفاظ على تولي أحد مواطنيهم لقيادة قوات الشرطة الإقليمية في المناطق الأربع ذات الغالبية الصربية، قبيل استكمال ملف تطبيع العلاقات والنظر في شكلها المستقبلي بين بلجراد وبريشتينا.