تعد بلدة "العديسة" في جنوب لبنان، الأكثر عرضة للقصف الإسرائيلي، الذي أدى إلى نزوح معظم سكانها، وفق ما كشفت صحيفة "ذا جارديان" البريطانية، في تقرير لها عن الوضع في بلدات الجنوب اللبناني الواقعة في مرمي العدوان الإسرائيلي.
وذكر تقرير الصحيفة، أن "العديسة" الأكثر عرضة للقصف الإسرائيلي في جنوب لبنان، منذ أكتوبر الماضي، مشيرًا إلى أن آخر مرة تعرضت فيه البلدة للقصف كانت قبل أربعة أيام، ومن المرجح تعرضها لمزيد من القصف لاحقًا، مع تزايد التصعيد المتبادل بين جيش الاحتلال وحزب الله، على الحدود الجنوبية للبنان.
وعلى مدى الأشهر التسعة الماضية، تبادل جيش الاحتلال وحزب الله إطلاق النار على "الخط الأزرق" الذي يرسم الأراضي التي تسيطر عليها إسرائيل من لبنان، وتتزايد المخاوف من أن يتحول الأمر إلى حرب شاملة.
وفي العديسة والمناطق الأخرى التي تمكنت "ذا جارديان" من الوصول إليها الأسبوع الماضي، بدورية لحفظ السلام تابعة للأمم المتحدة، يبدو أن الحرب وصلت بالفعل.
وجاء في تقرير الصحيفة، أنه في صباح أحد أيام شهر يوليو الجاري، كانت القرية اللبنانية الصغيرة الواقعة على الحدود مع المستوطنات الشمالية هادئة، حيث تسللت ثلاث سيارات مدرعة تحمل علامات الأمم المتحدة على طول طريقها الرئيسي الضيق.
ونقلت الصحيفة عن خوسيه إيريسارّي، وهو ضابط إسباني يخدم في كتيبة من قوات حفظ السلام التابعة للأمم المتحدة في جنوب لبنان: "من هنا وحتى نهاية العديسة، لن نرى الناس في الشوارع.. فقط سيارات الإسعاف والمسعفين".
وجراء القصف الإسرائيلي، تحولت مساحات طويلة من "العديسة" وقرية "كفر كلا" المجاورة، إلى بحار من الركام الخرساني، يتناثر فيها حديد التسليح والكابلات الكهربائية والأثاث المبعثر، وكان علم حزب الله الأصفر متشابكًا بين حطام أحد المنازل في كفر كلا.
ولا تزال المباني القليلة على طول الطريق الرئيسي في العديسة، التي نجت من الضربة المباشرة تحمل ندوب القصف المتكرر للبلدة بالقنابل الثقيلة، حيث تحطمت نوافذها وبقيت أبواب المرائب (الجراجات) المعدنية ملتوية.
ولم تواجه القافلة أي حركة للمرور سوى مركبة للجيش اللبناني وثلاث سيارات إسعاف تابعة لمنظمات خدمات الطوارئ المرتبطة بحزب الله وحركة أمل.
ولم يكن هناك أي علامة على الحياة في وسط العديسة، سوى كلب ضال وحيد، وشاب تحت مظلة أحد المتاجر، يحدقان أثناء مرور قافلة الأمم المتحدة.
ويبدو أن كفر كلا لم يكن بها سوى ثلاثة أشخاص في الشوارع، شابان وآخر أكبر سنًا، يجلسون في الظلام تحت مأوى خشبي على جانب الطريق، يسحبون من أنبوب مياه.
ويقول إريسارّي، وهو يتفقد الأضرار من خلال نافذة سيارته: "لقد اعتدنا أن نطلق على هذا لبنان السعيد".
ومرت سنوات عديدة بعد أن خاضت إسرائيل وحزب الله الحرب الأخيرة في صيف عام 2006، لكن تغيرت الأمور منذ الثامن من أكتوبر، أي اليوم التالي لهجوم الفصائل المفاجئ على مستوطنات غلاف غزة، عندما أطلق حزب الله وابلًا من المدفعية والصواريخ على الأراضي التي تسيطر عليها إسرائيل "تضامنًا" مع غزة.
وما تلا ذلك على مدى الأشهر التسعة الماضية كان عبارة عن وتيرة متصاعدة من مبدأ العين بالعين، إذ شنّ حزب الله عمليات قصف عنيفة على نحو متزايد للمستوطنات الشمالية، وقصف الاحتلال بقوة الجنوب اللبناني، وشنّ حملة اغتيالات استهدفت قادة حزب الله.
ومنذ بدء التصعيد، أسفر القصف الإسرائيلي عن مقتل 516 شخصًا في لبنان معظمهم من المسلحين و104 مدنيين، وفق تعداد لوكالة فرانس برس يستند إلى بيانات حزب الله ومصادر رسميّة لبنانيّة. وأعلن الجانب الإسرائيلي من جهته مقتل 18 عسكريًا و13 مدنيًا.
ويفضل المحللون والدبلوماسيون إنهاء القتال حتى يتمكن المدنيون من العودة إلى ديارهم، إذ يقول خليل الحلو، وهو جنرال لبناني متقاعد: "ما يحدث الآن هو حرب استنزاف.. الذي نخسره هو لبنان.. وحزب الله يخسر.. وإسرائيل تخسر".
ومن الممكن أن يوفر وقف إطلاق النار في غزة مخرجًا، ويقول حزب الله إنه سيتوقف من جانب واحد عن إطلاق النار على المستوطنات الشمالية إذا غادر جيش الاحتلال غزة.
ويقول عباس إبراهيم، رئيس الأمن اللبناني السابق، الذي تفاوض بين حزب الله والغرب خلال فترة ولايته: "لنفترض أنه لا توجد عملية كبيرة، أو عملية عسكرية على الأرض ضد غزة أو محاولة اجتياح بعض الأماكن مرة أخرى.. هذا يعني أنه يمكن وقف لإطلاق النار".
ويشترط الاحتلال نقل مقاتلي حزب الله وأسلحته إلى مسافة لا تقل عن خمسة كيلومترات من الحدود، بعيدًا عن قرى مثل العديسة وكفر كلا، وهو ما يراه المحللون مطلبًا أكثر صعوبة، ويسيئ فهم مدى عمق وجود الجماعة في قرى الخطوط الأمامية مثل هذه، والتي تميزت لعقود من الزمن بمقاومة الحروب والاحتلال الإسرائيلي.
ويقول مهند الحاج علي، وهو زميل في مركز كارنيجي للشرق الأوسط: "يعيش المقاتل في هذه المناطق حياته الطبيعية كمزارع أو عامل في مصنع أو في بعض الأحيان صاحب عمل، ولكن في الوقت نفسه لديه هذا الدور المزدوج كمقاتل في حزب الله".
ويقول "الحلو" إنه بدلا من ذلك، ربما تسعى إسرائيل إلى جعل القرى غير صالحة للعيش، مشيرًا إلى أن "هؤلاء الرجال منازلهم هي مواقعهم القتالية.. لا يمكنك أن تطلب منهم المغادرة، لذا فإن الإسرائيليين يدمرون المنازل ويدمرون المواقع القتالية".
وعانت "العديسة" طويلًا من الاحتلال الإسرائيلي، فقد كانت من أوائل القرى التي احتلها الجيش الإسرائيلي في العام 1977، وبقيت تعاني من نيران الاحتلال الذي لم يتركها إلا بعد أن أرغمته المقاومة على الخروج من الجنوب اللبناني في العام 2000، وكانت آخر قرية يخرج منها بعد التحرير، ولكن آثاره بقيت على أراضيها حيث زرع آلاف الألغام في تلالها مانعًا الأهالي حتى اليوم من الوصول إليها.
وفي حرب 2006، كانت العديسة أول القرى التي حاول العدو الإسرائيلي احتلالها، ولكن المقاومة صدته رغم محاولاته المتكررة، ولم يستطع احتلالها وسقط للعدو في إحدى المعارك وسط البلدة 12 قتيلًا.