في أثناء إدلائه بصوته في مدينة "لو توكيه" الساحلية، الأحد الماضي، كانت آخر مرة شوهد فيها الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون علنًا، وكان حينها يرتدي سترة طيار داكنة، ونظارة شمسية وقبعة بيسبول سوداء، ما جعله في مظهره المتخفي يبدو كنجم موسيقى الروك.
وبينما اجتذب مظهر ماكرون الكثير من الاهتمام على وسائل التواصل الاجتماعي والقنوات الإخبارية الفرنسية والأوروبية، كانت الحقيقة هي أن الرئيس تراجع خطوة إلى الوراء في الآونة الأخيرة، وكذلك، بصرف النظر عن الالتزامات الدولية المخطط لها، لم تتم رؤيته منذ ما يقرب من أسبوعين.
الأحد الماضي، بدلًا من ظهور ماكرون على شاشة التلفزيون لتهدئة مؤيديه بعد الهزيمة المذهلة في الجولة الأولى من الانتخابات البرلمانية، أصدر قصر الإليزيه بيانًا مقتضبًا من الرئيس يدعو إلى الوحدة، وكذلك، للمرة الأولى، يشن تحالف ماكرون الوسطي، الذي تضرر بالفعل بعد هزيمته في الانتخابات الأوروبية في يونيو، معركة يائسة دون زعيمه.
ووفق النسخة الأوروبية من صحيفة "بوليتيكو"، فإن حلفاءه لا يريدونه في الحملة الانتخابية "حتى أن وجه ماكرون تمت إزالته من أدبيات الحملة الانتخابية"، أو كما قال مسؤول في حزب "النهضة" - طلب عدم الكشف عن هويته - إن الرئيس طُلب منه التوقف عن الحملة "ولم يكن الأمر أنه سمع رسالتنا حقًا، بل كان مجبرًا على سماعها. لقد قلل - ماكرون - من مدى انزعاج الجمهور من شخصيته".
منفى الإليزيه
في الأسابيع الأخيرة، مارست العديد من الشخصيات ذات الوزن الثقيل في حزب "النهضة" - الذي ينتمي إليه الرئيس الفرنسي - ضغوطًا لحمل ماكرون على البقاء بعيدًا عن الحملة، وهو ما وصفه أحد الحلفاء الرئيسيين بأنه "إزالة ضرورية"، حتى إن أحد الوزراء اعترف على شاشة التلفزيون بأن صورة ماكرون "صارت بالية".
وبالنسبة للرئيس الجريء البالغ من العمر 46 عامًا، الذي اعتاد أن يخطف الأضواء ويخرج بأفكار جديدة، فإن الواقع الجديد ليس مُريحًا.
ولكن مثل نابليون الذي اضطر للخروج إلى المنفى، عاد ماكرون ليستعد لمعركته التالية، وهي حكم فرنسا بعدما يتوقع أن تكون هزيمة مدوية. فقد يضطر الرئيس الفرنسي إلى الدخول في "حكومة تعايش" مع حزب "التجمع الوطني" بزعامة ماري لوبان، الذي من المتوقع أن يقود أكبر كتلة في البرلمان.
وحسب "بوليتيكو"، كان ماكرون مشغولًا على مدار الأيام الماضية بتعزيز نفوذه، وتعيين العديد من كبار المسؤولين في فرنسا، والضغط من أجل حصول الحلفاء على وظائف رئيسية في بروكسل (مقر الكتلة الأوروبية)، ما أثار اتهامات من لوبان بأنه كان ينظم "انقلابًا إداريًا".
وأمس الأربعاء، أعلن المتحدث الرسمي باسم الحكومة، تعيينات جديدة في قوى الشرطة والأمن بعد الاجتماع الأسبوعي لمجلس الوزراء، كما تم تعيين العشرات من كبار المسؤولين العسكريين في الجيش والبحرية والقوات الجوية.
وكان من المتوقع إجراء المزيد من التعيينات، لكن في مواجهة الغضب المتزايد بشأن التعديل الإداري، اضطر الرئيس إلى تقليص خطته، وهو ما وصفه أحد المطلعين على المحادثات في الإليزيه بأنه "تراجع طفيف"، وفقًا لما ذكره موقع Playbook Paris.
ومن داخل قصر الإليزيه، يتلاعب الرئيس أيضًا بسيناريوهات اليوم التالي للانتخابات، التي تتضمن فوزًا كاسحًا لليمين المتطرف، وبرلمانًا معلقًا يضم حزب "التجمع الوطني" أكبر مجموعة فيه، وائتلافًا يستبعد اليمين المتطرف، وفقًا لعدد من المسؤولين.
كما طرح العديد من حلفاء ماكرون إمكان بناء ائتلاف فضفاض، على غرار ما تستطيع الأحزاب في إسبانيا أو ألمانيا القيام به.
وقال جابرييل أتال، رئيس الوزراء الفرنسي، في حديث للإذاعة: "ربما تكون هذه فرصة لإعادة اختراع الطريقة التي نحكم بها"، مضيفًا أن "جمعية وطنية تعددية يمكن أن تنبثق عن الانتخابات، مع عدة مجموعات سياسية من اليمين واليسار والوسط يمكن أن تعمل معًا".
لكن، مثل هذا التحالف يعتمد على نتائج الانتخابات، ولن يكون ممكنًا إلا إذا وافق ماكرون على العمل مع أقصى اليسار، أو إذا وافق الاشتراكيون والخضر والشيوعيون على الانفصال عن شريكهم في الائتلاف "فرنسا لا تنحني"، ويبدو أن كلا الاحتمالين بعيدان للغاية.
وقت الاختفاء
مع هذا، لن يبقى ماكرون بعيدًا عن الكاميرات لوقت طويل على ما يبدو، إذ يتعين عليه - بمجرد معرفة حجم انتصار لوبان - التركيز على اختيار رئيس وزراء جديد، الأمر الذي قد يستغرق أسابيع إذا لم تكن هناك أغلبية واضحة في البرلمان.
ووفق مسؤول الحزب الذي تحدث إلى "بوليتيكو"، سيأخذ ماكرون زمام المبادرة مرة أخرى كضامن لمؤسسات فرنسا.
وإذا فاز اليمين المتطرف بأغلبية كبيرة للغاية، فسيتعرض لضغوط لترشيح زعيم "التجمع الوطني"، جوردان بارديلا، رئيسًا للوزراء.
وإذا لم يكن الأمر كذلك، فمن الممكن أن يشارك الرئيس في محادثات ائتلافية مطولة مع منافسيه الحاليين على اليسار واليمين.
ورغم هذه الاحتمالات، من الصعب معرفة كيف سيتم إصلاح العلاقات مع حلفاء ماكرون الليبراليين، وكيف ستتحسن صورته لدى عامة الناس، بعد أن تراجعت شعبيته بالشارع الفرنسي في الأسابيع الأخيرة، وفق عدة استطلاعات.