يبدو أن صعود اليمين في فرنسا يحمل الكثير من التبعات غير السياسية، بل قد تُشكل دعوة الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، لإجراء انتخابات مبكرة في البلاد، مقامرة ضخمة للاقتصاد الفرنسي، إذ يخشى كثيرون أن يدفع الصعود اليميني إلى هزات في الأسواق المالية، وقد يدفع الديون الفرنسية إلى منطقة الخطر بشكل أعمق.
ووفق النسخة الأوروبية من "بوليتيكو"، ترتعش الأسواق المالية في البلاد من الرعب إزاء احتمال حصول حزب التجمع الوطني اليميني على المزيد من القوة في ثاني أكبر اقتصاد بمنطقة اليورو "وهو السيناريو الذي قد يعطل العمل في البرلمان، ويحدث فجوات أكبر في ميزانية فرنسا، المنهكة بالفعل من خلال طفرة الإنفاق الشعبوي".
فبعد أن دعا ماكرون إلى إجراء الانتخابات، الأحد، كانت الهزات فورية، إذ انخفض اليورو ليومين متتاليين مقابل الدولار، وخسر مؤشر "كاك 40" لسوق الأوراق المالية في باريس نحو 3%، وارتفع العائد على السندات الحكومية القياسية لأجل 10 سنوات - مقياس للمخاطر الاقتصادية والسياسية - إلى مستويات قياسية جديدة.
وفي وقت سابق من هذا الشهر، عانت فرنسا بالفعل من خفض تصنيفها الائتماني من قبل وكالة التصنيف "ستاندرد آند بورز"، التي أشارت إلى الانقسام السياسي باعتباره خطرًا.
وفي حين أن باريس لم تنحدر بعد إلى نفس فئة المخاطر، مثل إيطاليا المثقلة بالديون، فإن مشتري السندات ينظرون الآن إلى الديون الفرنسية باعتبارها استثمارًا ينطوي على مخاطر مماثلة لتلك التي يواجهها البرتغال.
أزمة الاقتصاد
في مؤتمر صحفي أمس الأربعاء، سارع ماكرون إلى استغلال ناقوس الخطر في الأسواق كإشارة إلى ضرورة حشد الناخبين ضد التجمع الوطني.
وخلال حديثه، ذكّر الرئيس الفرنسي متابعيه بأن التذبذبات في سوق الديون ضربت الاقتصاد الحقيقي بسرعة، لأنه في نهاية المطاف، فإن الحكومات التي تعاني من ارتفاع تكاليف الاقتراض وفواتير الديون الكبيرة لديها أموال أقل للمستشفيات والمدارس ووسائل النقل العام.
وقال: "الأسواق في حالة جنون، والشركاء الأوروبيون والدوليون يشعرون بالقلق. ماذا يعني ذلك بالنسبة للحياة اليومية للشعب الفرنسي؟"؛ مشيرًا إلى أن الحصول على حسابات ائتمان سيكون أكثر تكلفة، والقروض للحصول على السكن ستكون أكثر تكلفة، مشددًا على أن حكومته الليبرالية "لديها الجدية والاتساق لإدارة الاقتصاد".
وبينما دعا ماكرون إلى إجراء انتخابات وطنية بعد تعرضه لهزيمة ساحقة في انتخابات الاتحاد الأوروبي - على أمل أن يتمكن من حشد جبهة موحدة ضد اليمين المتطرف - لكن الخطر يكمن في أن اليمين المتطرف حتى لو لم يفز بأغلبية مطلقة - لا يزال قادرًا على خلق مأزق سياسي وزرع الفوضى.
وتشمل الأهداف الاقتصادية الرئيسية للتجمع الوطني خفض سن التقاعد من 64 إلى 60 عامًا، وهو ما ينسف تمامًا أحد الإصلاحات الاقتصادية التاريخية التي أطلقها ماكرون.
وانتقد برونو لو مير، وزير المالية، العواقب المحتملة لوصول التجمع الوطني إلى السلطة.
وقال لو مير في مقابلة مع قناة BFMTV، إن "برنامج التجمع الوطني هو برنامج ماركسي، ماركسي بحت وبكل بساطة. أود أن أعرف من سيدفع فاتورة البرنامج الماركسي لمارين لوبان".
كما وجه وزير المالية أيضًا رسالة حادة لقادة الصناعة، الذين اتهمهم بالصمت بشكل محبط عند انتقاد أجندة التجمع الوطني "اعلموا أنه إذا تم إقرار هذا البرنامج، فإننا نغلق المصانع ونفقد الوظائف".
أيضًا، عاد ليُحذّر، أمس الأربعاء، قائلًا: "العالم الاقتصادي يخشى التجمع الوطني".
قنبلة الديون
الأسبوع المقبل، من المتوقع أن تنشر المفوضية الأوروبية تقريرًا يسلط الضوء على الدول المسرفة، وهي 10 دول، بخلاف فرنسا، تعاني من "عجز مفرط" في عام 2023.
ويأتي التقرير في خطوة هي الأولى ضمن عملية مؤلمة لشد الحزام بتفويض من بروكسل، المعروفة باسم "إجراء العجز المفرط"، التي ستصبح أكثر خطورة إذا تولت حكومة قومية السلطة في باريس.
وتقف فرنسا على الجانب الخطأ من الحد الأعلى البالغ 3% من الناتج المحلي الإجمالي، بعد أن عانت من عجز في الميزانية 5.5% من الناتج المحلي الإجمالي العام الماضي.
وبعد الدعوة للانتخابات، سارعت وكالات التصنيف الائتماني أيضًا إلى دق ناقوس الخطر. وأشار المحللون في وكالة "موديز"، إحدى شركتي التصنيف اللتين أنقذتا باريس من خفض التصنيف الائتماني أخيرًا، إلى أن الأمر قد لا يتطلب الكثير لتغيير رأيهم.
وتنقل "بوليتيكو" عن المحللة سارة كارلسون وفريقها في وكالة التصنيف الائتماني: "عدم الاستقرار السياسي المحتمل يمثل خطرًا ائتمانيًا نظرًا للصورة المالية الصعبة التي سترثها الحكومة المقبلة"، مشيرة إلى أن عبء ديون فرنسا من المقرر أن يستمر في التوسع، ليصل 115% من الناتج المحلي الإجمالي بحلول عام 2027. وهو تقدم متزايد من 98% في عام 2019، و64% في عام 2007.
وبعد أن شقت فرنسا طريقها وسط الجائحة وأزمة الطاقة، يتعين عليها الآن أن تشد حزامها، إذ تُخفض باريس 20 مليار يورو من الإنفاق العام هذا العام، وتخطط لخفض ما لا يقل عن 20 مليار يورو أخرى في عام 2025.
ويتعين على البلدان التي تتجاوز حد الـ3% أن تخفض عجزها سنويًا على مدى عدد من السنوات حتى يصبح الدين إما على مسار هبوطي ثابت، أو مستقر عند مستوى مقبول تقرره المفوضية.
لكن من المستبعد أن تصل باريس مستوى 3% بحلول عام 2027، بحسب وكالة "موديز".