تزامنت فترة مراهقة نجيب الريحاني ودخوله مرحلة الشباب في بدايات القرن العشرين، مع حالة من النهضة بالفن المسرحي، من روادها الشيخ سلامة حجازي، إذ انبهر الفتى الشاب بعالم التمثيل، فلم تمنع وظيفته الحكومية من أن تكون مسارح شارع عماد الدين بوسط البلد وجهته المفضلة، حيث اكتسب أصدقاء عدة، شاركوه العشق ذاته لهذا الفن.
حب التمثيل بدأ منذ مرحلة الطفولة لدى الممثل الذي تمر اليوم ذكرى وفاته الـ75، لكن فنه ما زال علمًا يدرس لكل من يهوى دخول مجال التمثيل، إذ أخلص الممثل الراحل لمهنته كثيرًا وعشقها، وساعد على ثراء تجربته تلك النهضة المسرحية التي عاصرها، والتحاقه بالعديد من الفرق، منها "جورج أبيض" ذات الطابع الكلاسيكي التقليدي للمسرح، والتي لم تكن تُرضي ذائقة الريحاني، خصوصًا أن الجمهور كان يضحك على أدائه رغم تجسيده أدوارًا درامية.
فترة صغيرة قضاها الريحاني في فرقة "جورج أبيض" حتى تم فصله منها بسبب تغييره لتفاصيل شخصية ملك النمسا التي يجسدها في مسرحية "صلاح الدين"، إذ أكسبها طابعًا كوميديًا تسبب في إضحاك الجمهور الذي كان مفترضًا أنه يشاهد عملًا كلاسيكيًا تاريخيًا.
جورج أبيض لم يعجبه ما فعله نجيب الريحاني، وخرج الأخير من الفرقة يطرح على نفسه عدة أسئلة، منها: هل أنا بالفعل ممثل درامي قوي؟ أم فاشل مثلما يقول جورج أبيض؟ فالنجم المُلقب بـ"الضاحك الباكي" والمتأثر بالمسرحي الفرنسي جون بابتيست بوكلان الشهير بـ "موليير"، أحد أبرز أساتذة المدرسة الهزلية في تاريخ الفن المسرحي الأوروبي، لم يكن يدرك بعد ماهية شخصيته الفنية وكيف يعبر عنها.
من أجل التعبير عن شخصيته الفنية المميزة، أسس نجيب الريحاني مع مجموعة من الأصدقاء، منهم عزيز عيد واستيفان روستي فرقة "الكوميدي العربي"، التي كان رأس مالها 10 جنيهات فقط، ورغم حماس البدايات والرغبة في النجاح المدوي، فشلت الفرقة في الاستمرار مكتفية بالنجاح النسبي، حسبما يصفها نجيب الريحاني في مذكراته، كما أنه لم يكن راضيًا عن الأدوار الكوميدية التي يجسدها ووصفها بالتافهة حينئذ.
شعر "الريحاني" وقتها مع رفاقه بخيبة الأمل، لكن ذلك لم يثنه عن المحاولة مرة أخرى، رغم أن المنافسة على أشدها مع فرق مسرحية ظهرت في العقد الثاني من القرن الماضي، حجزت لنفسها مكانة مميزة لدى الجمهور.
جاءت انطلاقة نجيب الريحاني الفنية مع ابتكاره لشخصية "كشكش بيه"، ليقدم عروضًا فنية كوميدية من صميم المجتمع المصري تناقش قضاياه، وحققت نجاحًا كبيرا لدى الجمهور، إذ تفادى بها أخطاء فرقة "الكوميدي العربي" باعتمادها على روايات عالمية ليس بها الروح المصرية ولا تتشابه مع طبيعة المجتمع.
هذا النجاح الكبير لشخصية الريحاني المبتكرة بروح مصرية خالصة، أزعج منافسه الشرس وقتها في مجال الكوميديا الساخرة والهزلية، النجم الراحل علي الكسار، الذي ابتكر شخصية "عثمان النوبي"، لكي ينافس "كشكش بيه".
ذاع صيت شخصية نجيب الريحاني الجديدة، وقدم منها عدة عروض تحمل عناوين، منها: "كشكش بيه في باريس"، و"وصية كشكش بيه"، قبل أن يصطحب الشخصية الناجحة إلى السينما من خلال فيلم "صاحب السعادة كشكش بيه" الصادر عام 1931.
ذهاب نجيب الريحاني إلى السينما، ذلك الفن الجديد في تلك الفترة، لم يأت من نفس الطريق الذي سار عليه نجوم خشبة المسرح الذين وجدوا في الأفلام فرصة لتواصل أكبر مع الجمهور، إذ ابتعد عن المبالغة في الأداء التي كانت مقبولة في المسرح، لكن السينما شيء آخر، حسبما يقول الفنان الراحل نور الشريف في محاضرة عن التمثيل، ألقاها أمام عدد من الطلبة والمواهب الشابة، جاء فيها: "التمثيل وقتها من نجوم المسرح في السينما كان مفتعلًا، لأنه نابع من ميراث مسرحي قديم، وفخ وقع فيه الكثير من الممثلين، لكن نجا منه بعبقرية لافتة النجم نجيب الريحاني".
مع تألقه اللافت في المسرح وتقديمه أعمالًا بارزة أسهمت في انتعاش الحركة المسرحية، تألق نجيب الريحاني في السينما وقدم أفلامًا خالدة رغم قلتها، منها "سلامة في خير"، و"لعبة الست"، و"سي عمر"، و"أبو حلموس"، و"غزل البنات" الصادر في عام ،1949 والذي لم يمهله القدر لمشاهدته في السينما.
ابتعد نجيب الريحاني في سنواته الأخيرة عن المسرح قبل أن يعود إليه في نفس العام الذي توفي فيه، وكأنه يلقي عليه الوداع الأخير، إذ جاءت عودته بعد مناشدة حكومية من وزير الشؤون الاجتماعية وقتئذ جلال فهيم، الذي وجه له رسالة له عبر إحدى الصحف يدعوه فيها إلى العودة للمسرح.
ودّع الريحاني جمهور السينما بفيلم "غزل البنات" الذي عُرض بعد وفاته، وشاء القدر أن يودّع خشبة المسرح في عامه الأخير، قبل أن يرحل عن عالمنا يوم 8 يونيو عام 1949.