أثار إعلان إيران رسميًا 20 مايو 2024، وفاة الرئيس إبراهيم رئيسي على متن المروحية التي كان يستقلها، وسقطت كما قيل بسبب ظروف الطقس السيئة والتضاريس الصعبة، ومعه العديد من المسؤولين الذين لقوا حتفهم أيضًا أبرزهم حسين أمير عبداللهيان، وزير الخارجية الإيراني، ومحافظ أذربيجان الشرقية، خلال رحلة العودة بعد زيارة إلى أذربيجان افتتح خلالها رفقة الرئيس الأذربيجاني إلهام علييف، صباح الأحد 19 مايو 2024، سد "قيز قلعة سي" على الحدود بين البلدين، العديد من التساؤلات حول التحولات المحتملة في السياسة الإيرانية، وما إذا كان غياب رئيسي سيؤدى إلى تغير في تلك السياسات سواء ما يتعلق منها بالمباحثات المتعلقة بالبرنامج النووي مع القوى الغربية، وحدود تمدد أو انكماش المشروع الإيراني عبر أذرعه المنتشرة في العديد من الدول العربية، والموقف من القضية الفلسطينية، ومستقبل المواجهات الإيرانية الإسرائيلية، فضلًا عن مدى تماسك الداخل الإيراني لمواجهة التحديات المتنامية سواء على المستولى الخارجي أو على مستوى الداخل الإيراني، منها خلافة المرشد الحالي علي خامنئي، والصعوبات الاقتصادية بسبب العقوبات الغربية، التي تتجسد في تهالك البنية الأساسية الإيرانية، منها تهالك قطاع الطيران بسبب عدم توافر قطع الغيار اللازمة، وضعف فرق الإنقاذ المنوط بهم التحرك في الظروف الطارئة، بما جعل إيران تطلب مساعدات من دول أخرى لمواجهة الأزمة الطارئة.
انتقال السلطة
جاء تصريح المرشد الأعلى علي خامنئي بأنه لن يكون هناك أي خلل في عمل البلاد بعد الحادث، ليعكس نوعًا من التماسك المؤسسي فيما يتعلق بإدارة شؤون الدولة باعتبارها رسالة للخارج بأن هناك قواعد مؤسسية تحكم إطار انتقال السلطة في البلاد على جميع المستويات. وهو ما يمكن الإشارة إليه في النقاط التالية:
(*) الإطار الدستوري لانتقال السلطة: ينص الدستور الإيراني في المادة 131، على أنه في حال وفاة الرئيس أو إقالته أو استقالته أو غيابه أو مرضه لمدة تزيد على شهرين، أو في حال انتهاء مدة الرئاسة أو عدم انتخاب الرئيس الجديد بسبب عائق أو غير ذلك من الأمور، يتولى النائب الأول للرئيس بموافقة القيادة صلاحياته ومسؤولياته. ويتولى مجلس يتكون من رئيس مجلس النواب ورئيس السلطة القضائية والنائب الأول للرئيس، الترتيب لانتخاب رئيس جديد خلال مدة أقصاها 50 يومًا. وأعلنت السطات الإيرانية أنه تم تكليف محمد مخبر، الذي كان يشغل منصب النائب الأول لإبراهيم رئيسي، بتولي المهام الرئاسية مؤقتًا، لحين إجراء الانتخابات الرئاسية، التي تم فتح باب الترشح لخوضها، 31 مايو 2024، وإقرار عقدها 28 يونيو 2024.
(*) مركزية دور المرشد الأعلى: يعد المرشد الأعلى أو القائد كما يصفه الدستور الإيراني المتحكم الرئيسي في سياسات إيران الداخلية والخارجية. فوفقًا للمادة 110 من الدستور فإنه المسؤول عن تعيين السياسات العامة للنظام بعد التشاور مع مجمع تشخيص مصلحة النظام، والإشراف على إجراء السياسات العامة للنظام، إصدار الأمر بالاستفتاء العام، القيادة العامة للقوات المسلحة، إعلان الحرب والسلام والنفير العام، وتنصيب وعزل وقبول استقالة كل من فقهاء مجلس صيانة الدستور، أعلى مسؤول في السلطة القضائية، رئيس مؤسسة الإذاعة والتلفزيون، رئيس أركان القيادة المشتركة، قائد قوات الحرس الثوري، القيادات العليا للقوات المسلحة وقوى الأمن الداخلي، وكذلك حل الخلافات وتنظيم العلاقات بين السلطات الثلاث، وحل مشكلات النظام التي لا يمكن حلها بالطرق العادية من خلال مجمع تشخيص مصلحة النظام، وإمضاء حكم تنصيب رئيس الجمهورية بعد انتخابه من قبل الشعب، والموافقة على أهلية المرشحين للانتخابات بعد موافقة مجلس صيانة الدستور، وكذلك عزل رئيس الجمهورية مع مراعاة مصالح البلاد، بعد صدور حكم المحكمة العليا بتخلفه عن وظائفه القانونية أو بعد رأي مجلس الشورى الإسلامي بعدم كفاءته السياسية، على أساس المادة 89 من الدستور، والعفو أو التخفيف من عقوبات المحكوم عليهم في إطار الموازين الإسلامية بعد اقتراح رئيس السلطة القضائية، ويستطيع القائد أن يوكل شخصًا لأداء بعض وظائفه وصلاحياته.
(*) سلاسة انتقال للسلطة: أسهم الإطار الدستوري وتحديد الصلاحيات والاختصاصات لمراكز السلطة في النظام الإيراني بانتقال السلطة عقب وفاة الرئيس إبراهيم رئيسي بشكل يسير ودون معوقات، إذ أسند "خامنئي" لنائب الرئيس محمد مخبر، القيام بالمهام الرئاسية، الذي أكد أهمية استمرار التعاون بين السلطات فيما بينها والعمل على تقديم الخدمات للإيرانيين، مشيرًا إلى أنه سيسير على درب صديق الشعب "رئيسي"، في إنجاز المهمة الموكلة دون خلل. كما تم تكليف علي باقري، للقيام بمهام وزير الخارجية، إذ كان يشغل منصب مساعد وزير الخارجية للشؤون السياسية، كما عُين كل من عباس عراقجي، وعلي أبو الحسني وسيد رسول مهاجر، بمناصب مستشارين لوزير الخارجية، كما تولى محمد علي موحدي كرماني، رئاسة مجلس خبراء القيادة بأغلبية 55 صوتًا. ووفقًا للنظام الداخلي للمجلس يتألف مجلس خبراء القيادة من 88 عضوًا من رجال الدين المتنفذين، ومهمته الأساسية تسمية المرشحين المحتملين للمرشد الإيراني، إذا تعذر ممارسة مهامه، ومدة ولايته 8 سنوات، ويتم انتخاب أعضائه من قبل الشعب.
(*) المرشحون المحتملون لخلافة "رئيسي": تشير التقديرات المتنوعة إلى وجود عدد من المرشحين المحتملين لخوض الانتخابات الرئاسية المقبلة لخلافة إبراهيم رئيسي، أبرزهم علي لاريجاني، رئيس مجلس الشورى السابق، ومحمود أحمدي نجاد، الرئيس الإيراني الأسبق، ومحمد باقر قاليباف، الذي يحظى بدعم علي خامنئي، ومحمد مخبر نائب الرئيس السابق والقائم بمهام الرئيس، وتشير تلك التقديرات إلى أن "مخبر" هو الأقل حظًا للفوز في الانتخابات الرئاسية المبكرة المقبلة.
تحولات محتملة
من المرجح ألا تشهد السياسة الإيرانية عقب وفاة الرئيس إبراهيم رئيسي تحولًا أو تغييرات جذرية سواء على مستوى التوجهات أو على مستوى السلوك الخارجي، وهو ما يمكن إبرازه في المستويين التاليين:
(*) توجهات السياسة الإيرانية: ترتبط تلك التوجهات بأيديولوجية النظام الإيراني بشكل عام والتي لا تتغير بتغير الرؤساء، وتقوم ركائزها على فكرة تصدير الثورة للخارج، التي تجلت في تنامي الأذرع الإيرانية بعدد من دول الجوار العربي وغيرها، منها دعم الميليشيات المسلحة كالحشد الشعبي وفيالق الحرس الثوري الإيراني في سوريا والعراق، وجماعة الحوثي في اليمن، وحزب الله بلبنان، فضلًا عما أطلقت عليه إيران نصرة مستضعفي العالم كمرتكز في السياسة الخارجية الإيرانية. هذه التوجهات من المحتمل أن تظل كما هي بعد انتقال السلطة عقب وفاة "رئيسي" في ظل تنامي التحديات التي تواجه إيران وترى أن الحفاظ على مثل تلك التوجهات يمكنها من مواجهتها.
(*) السلوك الإيراني: على مستوى السلوك الإيراني خاصة على الصعيد الداخلي من المحتمل أن يستمر نهج النظام في الاعتقاد بأن تماسكه واستمراره يعتمد على الإجراءات المتشددة، لا سيما في ظل تنامي التذمر والتوجهات المطالبة بالإصلاح، إذ يشهد النظام كل عامين تقريبًا موجة احتجاجية عنيفة يتقدمها الشباب، فضلًا عن غموض خلافة المرشد الحالي علي خامنئي، بعد الحديث عن صعوبات صحيه تواجهه. أما على الصعيد الداخلي فإن تصعيد الأصوليين في مراكز السلطة المؤثرة عقب وفاة "رئيسي" يشى باستمرار التشدد الإيراني في المجال الخارجي، فالمفاوضات بشأن البرنامج النووي ستظل تراوح مكانها، لا سيما وأن ثمة إدراك إيراني بأن احتمالية فوز دونالد ترامب في الانتخابات الرئاسية سيعقد من مسار العلاقات بين البلدين. أما علاقة إيران بأذرعها الممتدة في الدول العربية فستبقى كما هي، وستحافظ إيران في نفس التوقيت على انفتاحها على عدد من الدول العربية، كما حدث في توقيع الاتفاق السعودي الإيراني باستعادة العلاقات الدبلوماسية بين البلدين برعاية صينية نهاية العام الماضي.
مجمل القول، ستظل الخطوط العريضة للسياسة الإيرانية داخليًا وخارجيًا بعد وفاة "رئيسي" وانتقال السلطة إلى رئيس جديد كما هي دون تغييرات جذرية، في ظل وجود صلاحيات المرشد الأعلى وتأثيره على رسم ملامح تلك السياسات، التي لا تزال تخضع للجدل المستمر بين من يدير السياسة الخارجية في إيران، وما إذا كان الدور الأهم لوزارة الخارجية أم للمؤسسات التابعة للمرشد الأعلى.