"هذا الفتى سيكون له شأن كبير في الموسيقى مستقبلًا، سيصبح من المؤثرين".. هكذا توقع الراحل سيد درويش مستقبل موسيقار الأجيال محمد عبد الوهاب، إذ كان الأخير شديد الولع به ويرافقه في مجالسه، ليتعلم منه فنون الموسيقى التي كانت تختلف كثيرًا وأكثر حداثة وتطورًا عمّا كان يدرسه في نادي الموسيقى الشرقي، الذي أصبح بعد ذلك يُعرف باسم معهد الموسيقى الشرقي.
محمد عبد الوهاب حقق توقعات وأصاب رؤية سيد درويش، والتي كانت صحيحة تمامًا وأكثر وضوحًا وفهمًا من مخططات عائلة الفنان الشاب، التي كانت في البداية ترفض دخوله مجال الفن، بل كثيرًا ما تعرض للضرب والعقاب لأنه يسهر خارج المنزل ليتسلل إلى مجالس الغناء والحفلات.
فهم سيد درويش طبيعة الفنانة الشاب الذي تحل اليوم الذكرى الـ33 لوفاته، فهو منذ طفولته كان يبحث عن مكان مميز له وسط نجوم الموسيقى والأغنية، حتى أصبح أحد أكثر الفنانين أصحاب التأثير الثقافي والموسيقي في أجيال مختلفة، سواء المعاصرة له أو التالية، حتى الجيل الحالي الذي لم يعاصره.
وكما كان عبد الوهاب مؤثرًا في أجيال مختلفة، كان شديد التأثر بنجوم ساهموا في مسيرته الفنية، ومنهم سيد درويش، ويتضح ذلك في رغبته الشديدة دائمًا ونهجه بتطوير الموسيقى، والاستفادة من التطور الذي حدث في الموسيقى الغربية، ودمجها مع الثقافة الشرقية، رغم أن العديد من الفنانين الذين عاصروه ونشأوا معه أو قبله بسنوات قليلة ومنهم صالح عبد الحي وزكريا كانوا شديدي التقرب لموسيقى القرن الـ19، لكن "موسيقار الأجيال" رأى أبعد من ذلك، وسعى إلى مد فروع معرفته إلى خارج حدود وطنه وبيئته، والاستفادة من ثقافة الغرب دون ارتماء في أحضانها.
يدين محمد عبد الوهاب بالفضل لسيد درويش في تعليمه الكثير من فنون الموسيقى الحديثة، وكان الأخير أيضًا مقتنعًا تمامًا بموهبته حتى إنه في فترة مرضه أسند إليه دوره في أوبريت "شهرزاد"، وكان دائمًا يقول في مجلسه مع أصدقائه إن هذا الفنان الشاب يختلف عن كل معاصريه.
الفنان الذي نشأ في باب الشعرية، ذلك الحي الشعبي الذي أنجب العديد من النجوم البارزين، ومنهم نجيب الريحاني، وعبد المنعم مدبولي، قبل لقائه بسيد درويش تأثر كثيرًا بأحد المشايخ في الكُتاب الذي كان يتعلم فيه حفظ وتجويد القرآن الكريم، ما ساعده على إتقان اللغة العربية، وكانت عائلته تتوقع له أن يسلك درب التعليم في جامعة الأزهر، أو أن يصبح موظفًا حكوميًا، لكنه كان يرى الفن طريقه خصوصًا مع إعجابه بعدد من نجوم الموسيقى والغناء في مطلع القرن الـ19.
كان عبد الوهاب يترك منزله ليلاً لكي يذهب إلى حفلات صالح عبد الحي، أو يسترق السمع إلى الشيخ محمد رفعت، والشيخ سيد الصفتي، وأيضًا أُعجب للغاية بما يقدمه الشيخ سلامة حجازي، رغم أنه بعد ذلك سار في طريق مختلف ساعيًا إلى التجديد في الموسيقى، لكنه لم يتعجل في هذا الأمر، إذ بحث في البداية عن طريق لدخول هذا العالم حتى تحقق له بالالتحاق بفرقة "فوزي الجزايرلي"، أحد الرواد في تاريخ السينما المصرية، إذ أشركه في عروض مسرحية للفرقة ليقدم أغنيات بين الفصول أو ضمن أحداث الرواية.
معارضة أسرة الفنان الراحل دخوله مجال الغناء أجبرته في البداية على تغيير اسمه إلى محمد البغدادي، حسبما يؤكد المؤرخ الموسيقي فكتور سحاب في كتابه "محمد عبد الوهاب.. سيرة موسيقية"، الذي يذكر أنه بعد أن افتضح أمر عبد الوهاب وتعرض للعقاب أصرّ على موقفه ما دعا أسرته إلى الموافقة على التحاقه بفرقة عبد الرحمن رشدي، ليسلك عقب ذلك طريقه نحو الفن، متنقلًا بين عدة فرقة مسرحية.
ورغم أن الشاعر أحمد شوقي كان سببًا في منع الفتى الشاب من الغناء بدعوى صغر سنه عندما شاهده يشارك في عروض فرقة عبد الرحمن رشدي، إلا أنه في اللقاء الثاني بينهما تبدل الحال وأصبحا صديقين، إذ أعجب أمير الشعراء بطموح وموهبة عبد الوهاب، وكان سببًا في أن تتغير حياته ويجالس كبار المثقفين ورجال الفكر والسياسة في ذلك الوقت، ويعترف موسيقار الأجيال بهذا الفضل في برنامج تلفزيوني قديم، قائلًا: الحقيقة مقابلتي وصداقتي لأحمد شوقي كانت مهمة للغاية في حياتي، فهو والدي الروحي وأستاذي في الحياة، وصاحب الفضل الأكبر عليّ".
كانت صداقة شوقي بمثابة تأشيرة المرور التي منحت عبد الوهاب دخول مجتمع المثقفين، لكن ذلك ليس التأثير الوحيد فقط بل أيضًا حسبما يقول الفنان الراحل: "تعلمت من الشاعر الراحل الكثير من الأمور الحياتية المهمة ومنها التواضع الشديد رغم قيمته الأدبية الكبيرة، وأسمي ذلك تواضع العظيم العبقري، ولم أكن أصدق نفسي عندما يأخذ رأيي في قصائد يؤلفها لي خصيصًا لكي ألحنها".
هذه الصداقة القوية بين شوقي وعبد الوهاب أثمرت عن العديد من الأغنيات الخالدة منها "مضناك جفاه"، و"رُدت الروح"، و"يا ناعمًا رقدت جفونه" و"دار البشاير"، لتضاف إلى قائمة طويلة من الألحان للموسيقار الراحل التي ما زالت تعيش بيننا حتى اليوم، ومنها "أنت عمري" التي التقى فيها بكوكب الشرق أم كلثوم، وعرفت إعلاميًا وقتها بـ"لقاء السحاب".
الفنان الذي رحل عن عالمنا يوم 4 مايو عام 1991 له إسهامات قليلة في السينما، لكنه عرف الطريق إليها من بوابة البطولة المطلقة، إذ كان الظهور الأول له عام 1932 من خلال فيلم "الوردة البيضا"، وقدم بعد ذلك أفلام منها "يحيا الحب"، و"رصاصة في القلب"، و"يوم سعيد"، و"لست ملاكًا".