"الصدق دائمًا يصل إلى الجمهور مهما كان أسلوب الفنان".. فلسفة خاصة آمنت بها النجمة المصرية الراحلة سناء جميل، التي وُلدت في مثل هذا اليوم 27 أبريل عام 1930، إذ اعتمدت على هذه الرؤية، ليس فقط في تجسيد أدوارها التمثيلية ولكن أيضًا كمنهج عام في الحياة، إذ طبقته حتى في تفاصيل حياتها الصغيرة.
كثيرًا ما رددت سناء جميل في لقاءاتها الإعلامية جملة "إذا آمنت بشيء أحببته بصدق"، هذه المقولة التي تفسر سبب إصرارها على دخول مجال التمثيل والالتحاق بمعهد الفنون المسرحية في الخمسينات من القرن الماضي، رغم معارضة أسرتها دخولها الفن، بل تلقيها صفعة شديدة من شقيقها، بعدما اكتشف أنها شاركت في أدوار تمثيلية بالإذاعة، وأنها التحقت بالمعهد دون علم الأسرة.
الصفعة التي تلقتها سناء جميل أفقدتها السمع بإحدى أذنيها، لكن لم تُفقِدها الإصرار على موقفها، فالفنانة التي ولدت في محافظة المنيا لأسرة ميسورة الحال، عشقت فن التمثيل أثناء فترة الدراسة بالمدرسة الفرنسية بالقاهرة، وقررت أن تصبح ممثلة، وبامتلاكها صفة العناد صارت في طريقها رغم اعتراض أفراد الأسرة ورفضهم عمل ابنتهم بمهنة التمثيل، لكنها مضت في طريقها، فما كان من الأسرة إلا طردها من المنزل.
في هذه الأوقات كانت الفتاة المغرمة بالفن تحكي ما تواجهه مع أسرتها، لأستاذها المخرج زكي طليمات الذي ضمها لفرقة "المسرح الحديث"، وغير اسمها من ثريا إلى سناء جميل، وساعدها على إيجاد مسكن متواضع لها في منطقة وسط البلد بالقاهرة.
المشهد في منزل سناء جميل الجديد المتواضع، يختلف كثيرًا عما اعتادت عليه ابنة الأسرة الارستقراطية في منزل العائلة، فليس هناك أثاث فاخر أو خدم أو طعام متنوع، لكن لديها فقط طموح أن تصبح ممثلة شهيرة وتشبع هوايتها.
"لم يفهموا أن الأمر جد للغاية بالنسبة لي، لم يدركوا مدى عشقي للفن، تمسكوا بالتقاليد، لكني أثبت لهم أنني كنت على صواب"، هكذا قالت سناء جميل عن عائلتها وهي تكاد أن تبكي في أحد اللقاءات الصحفية، فهي تمنت أن تقف أسرتها بجانبها وتساعدها في بداية حياتها الفنية، التي عانت فيها من صعوبات كثيرة.
لكن في الوسط الفني كان زكي طليمات مؤمنًا بموهبتها بشدة، ليسند لها دورًا بارزًا في مسرحية "الحجاج بن يوسف"، إذ جسدت شخصية "غزالة" زوجة المحارب شبيب، ليكون أول صعود لها على خشبة المسرح ومواجهة الجمهور، وكان من إحدى صعوبات الدور أن الحوار مكتوب بالعربية الفصحى، التي لم تكن تجيدها نظرًا لدراستها بمدراس أجنبية، لكنها أجادت تجسيد الشخصية بثقة في النفس ومواجهة المواقف دون خوف، وبات بعض من العاملين بالوسط الفني يتهامسون حول وجود فنانة جديدة موهوبة للغاية.
وسط نجاح سناء جميل في أول صعود لها على خشبة المسرح، كان المخرج صلاح أبو سيف يعاني من فشل إقناع النجمة فاتن حمامة بتجسيد دور "نفيسة" في فيلم "بداية ونهاية"، الذي يعد أول عمل روائي للأديب نجيب محفوظ يتم تحويله إلى فيلم سينمائي، إذ رفضت الفنانة الملقبة بـ"سيدة الشاشة العربية" تجسيد دور فتاة غير جميلة تذهب بها الأقدار إلى ممارسة البغاء.
لكن مؤلف العمل صلاح عز الدين الذي كان يعمل مخرجًا في الإذاعة أيضًا، سمع عن أداء سناء جميل، وذهب إلى "أبو سيف" ليبشره بأنه قد يجد في عرض "الحجاج بن يوسف" نفيسة التي يبحث عنها، وبالفعل ذهب المخرج لمشاهدة المسرحية، وانبهر بأداء الفنانة الشابة ليضمها إلى أبطال الفيلم، رغم معارضة النجم فريد شوقي وقتها.
كان فريد شوقي يخاف من فشل الفيلم، ونقل مخاوفه إلى صلاح أبو سيف، قائلًا: ليس معي نجوم في الفيلم، أريد نجمة، هذه الفتاة تخرجت للتو من معهد الفنون المسرحية"، لكن المخرج طمأنه بأنها ستقدم الشخصية بشكل مميز.
بينما سناء جميل كانت تشعر بسعادة غامرة، ليس مصدرها الـ150 جنيهًا التي تقاضتها أجرًا عن الدور، فرغم فقرها الشديد لم تكترث كثيرًا للمبلغ المادي، بل لأنها ستقف أمام كاميرا صلاح أبوسيف، ومع النجم الشهير فريد شوقي، التي لم تكن تعرف أنه يرفض مشاركتها بالفيلم.
موقف فريد شوقي تغير تمامًا بعد رؤيته أداء سناء جميل، إذ انبهر به، وبعد عرض الفيلم عام 1960، صرح قائلًا بأنه لم يعد يرى أي فنانة أخرى قادرة على تجسيد شخصية "نفيسة" مثلها.
وتألقت سناء جميل في دور نفيسة، التي في الحقيقة تختلف كثيرًا عن شخصيتها، فهي ليست هذه الفتاة الضعيفة التي تسوقها الظروف بل ترسم خطواتها بنفسها. ومع تراجع فريد شوقي عن رأيه وتعديل نظرته للفنانة الشابة، كان صلاح أبو سيف سعيدًا برهانه عليها، خصوصا أنه راهن في العمل نفسه أيضًا على نجاح الفنان صلاح منصور في دور "سليمان ابن البقال"، ويبدو أنه قرر الاحتفال بهذا النجاح في فيلم آخر تالٍ له وهو "الزوجة الثانية"، بضم الاثنين لفريق عمل الفيلم، رفقة سعاد حسني وشكري سرحان.
ولم تُخيّب سناء جميل ظن صلاح أبو سيف، وأجادت تجسيد شخصية "حفيظة" زوجة العمدة "عتمان" التي حٌرمت من نعمة الإنجاب، وتتفق مع زوجها على أن يتزوج من فتاة فقيرة وينجب منها ابنًا يرثه، لتبدع في الدور وتصبح واحدة من أبرز نجوم جيلها، ويستمر عطاؤها الفني في المسرح والتلفزيون والسينما.
اعتمدت سناء جميل في تجسيد شخصياتها بأعمالها الفنية على قراءاتها الكثيرة في علم النفس، لنرى تجسيدًا صادقًا لشخصيات مثل فضة المعداوي في مسلسل "الراية البيضا"، نرجس في فيلم "الخرتيت"، لطيفة هانم في "سواق الهانم"، حسنية في "خالتي صفية والدير"، فهي تدرس الشخصية جيدًا وتغمض عينيها لتتخيلها كيف تتحرك وتتصرف، حتى تفتح عينيها وتشعر بأن الشخصية تأتي إليها طواعية وتصبح طبيعية وعادية.
هذا الصدق في الأداء الذي تميزت به سناء جميل جعلها واحدة من أبرز نجمات التمثيل، حتى قال عنها الفنان فؤاد المهندس في لقاء تلفزيوني: "أعتبرها بمثابة الاختراع الذي لا يوجد له مثيل، لا أحد يشبهها ولا تشبه هي أحدًا".