يعيش عالم اليوم حالة من الفوضى الجيوسياسية، في وقت لا يستطيع المراقبون إقرار شكل التوزيع العالمي للقوة. فلا أحد يجزم بنهاية عصر الهيمنة الأمريكية، أو ما إذا كنا في عالم ثنائي القطب أم متعدد الأقطاب.
أيضًا، هناك من يرى أن الدول لم تعد اللاعب الرئيسي في العالم، بعد ظهور عصر "القطبية التكنولوجية"، وأصبحت الشركات العملاقة مثل أمازون، وأبل، وجوجل، وميتا، وأصحاب هذه الشركات، مثل إيلون ماسك أو مارك زوكربيرج، هم القوى العظمى الجديدة.
وفي كتابهما "الإمبراطورية السرية: كيف حوّلت أمريكا الاقتصاد العالمي إلى سلاح"، يفترض المؤلفان هنري فاريل وأبراهام نيومان أن الولايات المتحدة لا تزال تتمتع بقدر كبير من القوة الهيكلية في النظام العالمي.
ومع ذلك، يرى كتاب "الإمبراطوريات الرقمية: المعركة العالمية لتنظيم التكنولوجيا" ومؤلفته آنو برادفورد، أن القوة العظمى المفاجئة ليست الولايات المتحدة ولا الصين، بل الاتحاد الأوروبي.
وفي مقاله المنشور بمجلة "فورين بوليسي"، يشير دانييل دريزنر، أستاذ السياسة الدولية في كلية فليتشر للقانون والدبلوماسية بجامعة تافتس، إلى أن كلا الكتابين ركزا على ممارسة السلطة والحكم في المجال الرقمي، والسبب وراء صعوبة الاتفاق حول الوضع الحالي، وخاصة عندما يتعلق الأمر بالتكنولوجيا.
تركيز السلطة
في عام 2019 نشر فاريل ونيومان (مؤلفا كتاب "الإمبراطورية السرية: كيف حوّلت أمريكا الاقتصاد العالمي إلى سلاح") ورقة بحثية في مجلة الأمن الدولي، بعنوان "الاعتماد المتبادل المسلح: كيف تشكل الشبكات الاقتصادية العالمية إكراه الدولة؟".
في تلك الورقة، افترض "فاريل" الأستاذ في كلية جونز هوبكنز للدراسات الدولية المتقدمة، و"نيومان" الأستاذ في جامعة جورج تاون، أن العولمة، عبر العديد من القطاعات الاقتصادية، ولّدت بنية شبكية تعمل على تركيز السلطة في عدد قليل من العُقد المركزية، وهكذا، يمكن للدول التي تسيطر على تلك النقاط -مثل الولايات المتحدة- أن تمارس نفوذًا عالميًا كبيرًا.
وكتب المؤلفان: "اعتمد الاقتصاد العالمي على نظام تم إنشاؤه مسبقًا من الأنفاق والقنوات التي يمكن للولايات المتحدة أن تنتقل إليها وتتكيف معها، بالسهولة نفسها تقريبًا كما لو كانت مصممة خصيصًا من قِبل مهندس عسكري لهذا الغرض".
وأضافا: "من خلال السيطرة على التقاطعات الرئيسية، يمكن للحكومة الأمريكية الاستماع سرًا إلى ما يقوله الخصوم لبعضهم البعض، أو تجميدهم خارج النظام المالي العالمي".
كما تستمد "برادفورد" من كتابها "الإمبراطوريات الرقمية: المعركة العالمية لتنظيم التكنولوجيا" لعام 2020، تأثير بروكسل، الذي يجادل بأن مزيج الاتحاد الأوروبي، من قوة السوق والقدرة التكنوقراطية، جعله قوة عظمى في مجالات القضايا حيث يفضل الأوروبيون المعايير التنظيمية الصارمة.
وتؤكد "برادفورد"، الأستاذة في كلية الحقوق بجامعة كولومبيا، أن هناك ثلاث قوى عظمى عندما يتعلق الأمر بتكنولوجيا الإنترنت، وكل واحدة منها تقدم مجموعة مختلفة من الرأسمالية الرقمية.
وعلى حد وصفها "كانت الولايات المتحدة رائدة في نموذج قائم على السوق إلى حد كبير، والصين نموذج تقوده الدولة، والاتحاد الأوروبي نموذج قائم على الحقوق".
وتؤدي هذه الأساليب المتباينة إلى اشتباكات أفقية بين الولايات المتحدة والصين والاتحاد الأوروبي بشأن قضايا تنظيمية وتكنولوجية مثل خصوصية البيانات والإشراف على المحتوى.
كما تعمل التفضيلات الرقمية المتباينة على خلق اشتباكات رأسية بين هذه الحكومات وشركات التكنولوجيا التي توفر البنية التحتية والخدمات الرقمية. حسبما يرى "دريزنر" أستاذ السياسة الدولية.
يقول: "أرغمت الدولة الصينية شركاتها على الامتثال بشكل أكبر لإملاءات الحكومة؛ وكانت الشركات الأمريكية أكثر استعدادًا لمحاربة الحكومة الفيدرالية بشأن مسائل خصوصية البيانات".
بين واشنطن وبروكسل
يستخلص تحليل "دريزنر" أنه، بالنسبة لفاريل ونيومان، تحتفظ واشنطن بقوة هيكلية كبيرة لأن الكثير من العالم الرقمي نشأ في الولايات المتحدة. ما يمنح الولايات المتحدة القدرة على المراقبة والتأثير، وإذا لزم الأمر، إكراه الجهات الأخرى عبر مجالات متعددة.
لذا، وكما حدث في أواخر ثمانينيات القرن الماضي، عندما أعتقد الكثير من علماء العلاقات الدولية أن الولايات المتحدة كانت في حالة انحدار نهائي، ربما يقلل المعلقون من تقدير قوة الولايات المتحدة الحالية في العالم الرقمي.
لكن بالنسبة لـ"برادفورد"، فإن ما يهم هو الجمع بين قوة السوق، وقدرة الدولة، وجاذبية التفضيلات التنظيمية للحكومة. وتمكنها هذه الصيغة من التنبؤ بأن الاتحاد الأوروبي، في المستقبل، سيكون الممثل الديمقراطي الأكثر أهمية في الحوكمة الرقمية العالمية.
ويشكل افتقار الاتحاد الأوروبي إلى شركات التكنولوجيا الكبرى ميزة إضافية في نموذج برادفورد، لأنه يقلل من حافز الاتحاد الأوروبي لتلبية احتياجات مجموعات المصالح المحلية.
لذا، ترى أن نموذج حوكمة التكنولوجيا الأمريكي القائم على مبدأ عدم التدخل في السوق "يفقد جاذبيته في الداخل والخارج".
وبينما يفقد النموذج الأمريكي بريقه، تفترض برادفورد أن الولايات المتحدة ستتحالف بشكل أوثق مع الاتحاد الأوروبي ضد نموذج الصين الأكثر استبدادية للحوكمة الرقمية
وخلافًا لفاريل ونيومان، ترى برادفورد أن الولايات المتحدة تتجه نحو طريق الاتحاد الأوروبي بشأن لوائح الذكاء الاصطناعي؛ معربة عن أن الذكاء الاصطناعي "قد يكون هو الحدود التالية لتأثير بروكسل".
لكن التقرير الذي نشرته صحيفة "بوليتيكو" أخيرًا حول التعارض بين الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة في مجال الذكاء الاصطناعي يشير إلى أن بعض الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي -مثل فرنسا- لا تتفق بالضرورة مع بروكسل.
كما عارض المسؤولون الأمريكيون، إلى جانب ممثلي وادي السيليكون (شركات التكنولوجيا العملاقة في كاليفورنيا)، بشدة معايير الاتحاد الأوروبي.
وجاء في التقرير: "مع اقتراب عام 2024، يبدو أن أولئك الذين يريدون لمسة أخف هم الفائزون، على الرغم من القواعد الملزمة الجديدة للاتحاد الأوروبي بشأن الذكاء الاصطناعي".