في قلب قطاع غزة المحاصر، حيث تتداخل معاناة السكان مع ويلات الحرب وآثارها المدمرة، تكشف الكارثة البيئية عن حجم الدمار الهائل الذي طال مقومات الحياة في هذا الإقليم الصغير، فالبساتين العامرة والأراضي الخصبة التي كانت تمنح الغزيين لقمة عيشهم، باتت اليوم أرضًا جرداء تحت وطأة القصف والدمار، فيما تحولت مياه البحر إلى مستنقع سام يهدد ما تبقى من الكائنات البحرية.
إبادة بيئية
أحدث العدوان الإسرائيلي الأخير على قطاع غزة آثارًا بيئية مدمرة، دفعت باحثين ومنظمات بيئية إلى اعتبارها "إبادة بيئية"، يجب التحقيق فيها كجريمة حرب محتملة.
وكشف تقرير مفصل لصحيفة "ذا جارديان" البريطانية، عن تحول بساتين الزيتون العريقة والمزارع الخصبة التي كانت تشكل سبل عيش آلاف العائلات الفلسطينية في غزة، بسبب العدوان الإسرائيلي الدموي على القطاع المنكوب، إلى أرض بور جرداء، كما تسببت الذخائر والسموم المنتشرة في تلويث التربة والمياه الجوفية بشكل خطير، في حين اختنق البحر بمياه الصرف الصحي والنفايات المتراكمة، وتلوث الهواء بالدخان والجسيمات الضارة الناجمة عن القصف المكثف.
ووصفت المواطنة سها أبو دياب من مدينة رفح الجنوبية، للصحيفة البريطانية، المأساة القاسية التي يعيشها سكان غزة في ظل هذه الكارثة البيئية، قائلة: "ليس لدينا مياه جارية ولا وقود للتدفئة والطهي، وتحيط بنا مياه الصرف الصحي الجارية والنفايات المتراكمة في كل مكان".
ويخشى السكان من أن الهواء الذي يتنفسونه مليء بالملوثات الضارة، وأن المياه قد تكون حاملة للأمراض والميكروبات الخطيرة، في ظل مشاهد مروعة لبساتين مدمرة وأراضٍ زراعية خصبة سحقتها القنابل والدبابات والجرافات الإسرائيلية.
تدمير الأراضي الزراعية والبساتين
لم يُحصَر بعد المدى الكامل للأضرار البيئية الناجمة عن العدوان، لكن تحليلات صور الأقمار الصناعية التي أجريت أظهرت تدمير ما بين 38 إلى 48% من الغطاء الشجري والأراضي الزراعية في قطاع غزة، كما كشفت الصور عن حجم الدمار الذي لحق بالأراضي الزراعية والبساتين خاصة الزيتون، التي كانت تغطي مساحات شاسعة من أرض القطاع.
من جهته، قدر الأستاذ هي يين من جامعة ولاية كينت الأمريكية، والذي درس الأضرار التي لحقت بالأراضي الزراعية في سوريا خلال الحرب الأهلية عام 2011، أنه بحسب ما أظهرت صور الأقمار الصناعية، فإنه ما يصل إلى 48% من الغطاء الشجري في غزة فُقد أو تضرر بشكل كبير، خلال الفترة الممتدة من 7 أكتوبر 2023 إلى 21 مارس 2024.
إضافة إلى الدمار المباشر الناجم عن الهجمات العسكرية والقصف، اضطر السكان إلى قطع أي أشجار متبقية يجدونها للتدفئة أو الطهي بسبب نقص الوقود الشديد الذي فرضته إسرائيل على القطاع منذ بدء العدوان.
ووفقًا لتحليل مستقل أجرته مجموعة الهندسة المعمارية الجنائية، وهي مجموعة بحثية مقرها لندن تحقق في حالات العنف التي ترتكبها الدول، فإن النشاط العسكري الإسرائيلي في غزة أدى إلى تدمير أكثر من 65 كيلومترًا مربعًا من المزارع والبساتين، التي كانت تغطي نحو 170 كيلومترًا مربعًا، أو 47% من إجمالي مساحة أراضي غزة، أي ما يعادل 38% من إجمالي مساحتها قبل العدوان.
كما دُمر ما يقرب من ثلث الصوبات الزراعية التي تشكل جزءًا حيويًا من البنية التحتية الزراعية في القطاع، حسب تقديرات المجموعة.
تبرر إسرائيل بعض عمليات هدم وتجريف الأراضي بأنها "ضرورة عسكرية"، كإنشاء طريق عسكري جديد يمتد عبر القطاع بعد تطهير آلاف الأفدنة من الأراضي الزراعية، إلا أن الحقيقة المرة هي أن القصف الإسرائيلي المكثف على غزة خلَّف ما يقدر بنحو 22.9 مليون طن من الحطام والمواد الخطرة، حيث احتوى كثير من ركام المباني المدمرة على رفات بشرية لضحايا القصف.
انهيار البنية التحتية
في ظل استمرار الصراع وحصار القطاع المنكوب، انهارت البنية التحتية المدنية الهشة أصلًا بشكل كامل، إذ تراكمت أكوام من النفايات الصلبة بلغت 70 ألف طن منذ بدء العدوان في 7 أكتوبر الماضي، بحسب بلدية غزة.
كما انتشرت مدافن النفايات العشوائية في أنحاء القطاع، مع عدم قدرة السلطات على جمع وإزالة هذه الكميات الهائلة من القمامة.
ولم تقف الكارثة عند هذا الحد، إذ أدى انقطاع التيار الكهربائي الناجم عن قطع إسرائيل إمدادات الوقود إلى عدم إمكانية ضخ مياه الصرف الصحي إلى محطات المعالجة، مما تسبب في تدفق نحو 100 ألف متر مكعب من مياه المجاري يوميًا إلى البحر حسب تقديرات برنامج الأمم المتحدة للبيئة.
في خضم هذه الكارثة البيئية الفظيعة التي جعلت غزة بمثابة "أرض موبوءة" تهدد حياة سكانها ومستقبلهم وكل مقومات البقاء فيها، يكابد الغزيون من أجل البقاء على قيد الحياة، ويواجهون تحديات جمة في ظل غياب أبسط متطلبات العيش الآمن من مياه نظيفة وهواء نقي وغذاء صحي وبيئة آمنة خالية من التلوث والملوثات الناجمة عن العدوان وآثاره المدمرة.