بالتوازي مع إعادة انتخاب الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، لولاية رئاسية جديدة، برزت المخاوف من عودة الأقاليم الانفصالية في الجوار الروسي إلى دائرة التوتر مع الغرب، في الوقت الذي أعلنت فيه منطقة ترانسنيستريا الانفصالية في مولدوفا عن تعرضها لهجوم من جهة أوديسا الأوكرانية، واتهمت كييف بالوقوف خلف استهداف قاعدة عسكرية، وذلك بعد أيام من طلب سلطات "جمهورية بريدنيستروفيه"، من روسيا نهاية فبراير الماضي التدخل لحماية الإقليم الذي يحظى بتواجد عسكري روسي تحت مظلة "حفظ السلام"، وهو ما يثير المخاوف بشأن انتقال الصراع بين روسيا والغرب إلى الأقاليم الانفصالية المجاورة، في إطار دعم "السياسة الإنسانية" الجديدة والتي تخول لموسكو التدخل لحماية الحقوق الثقافية للأقليات الروسية.
تأسيسًا على ما سبق؛ يتناول التحليل التالي مدى تأثير الحرب الروسية الأوكرانية على الاستقرار في مولدوفا، وعلى علاقة روسيا بترانسنيستريا، خاصة بعد فوز الرئيس بوتين بولاية رئاسية جديدة.
توتر مُتزايد
ارتفع منسوب التوتر بين روسيا ودول الجوار في أعقاب الحرب الروسية الأوكرانية وطول أمدها، فمع استمرار الحرب دون أفق زمني واضح لنهايتها أو وجود تسوية ذات مصداقية تعيد التوازن لنظام الأمن في أوروبا، تحينت الأقاليم الانفصالية الفرصة لاستغلال الواقع الجديد في إقليم دونباس ومناطق الجنوب الأوكراني التي أعلنت روسيا ضمها في سبتمبر 2022، بعد إعطاء الاتحاد الأوروبي أولى إشارات الترحيب بكل من جورجيا ومولدوفا وأوكرانيا عبر منحها صفة "مرشح للانضمام" في يونيو من نفس العام.
ومنذ بداية العام الجاري بدت مساعي كيشيناو في تسريع خطى الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي، دافعًا لمزيد من التضييق على سلطات المنطقة الانفصالية اقتصاديًا وقانونيًا ولوجيستيًا، وهو ما يمكن استعراضه في التالي:
(*) تهديدات أمنية في ترانسنيستريا: انتقل الوضع في ترانسنيستريا من الهدوء النسبي في أعقاب توقف محادثات (5+2) مع مولدوفا بمشاركة (روسيا وأوكرانيا ومنظمة الأمن والتعاون في أوروبا) وكل من الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي بصفة مراقب في عام 2019، إلى عودة التوتر مع اشتعال الحرب في الجوار الأوكراني في 24 فبراير 2022، وخلال الأيام الأولى للحرب، تعرضت عدة مواقعة حكومية بإقليم ترانسنيستريا، ومنها مقر "وزارة أمن الدولة" لعدة هجمات في 25 و26 أبريل 2022، في أول مظاهر التصعيد بالجيب الانفصالي الذي تحيطه أوديسا الأوكرانية من الشرق والجنوب. وفي أعقاب التوتر المتصاعد دعا رئيس بعثة "جمهورية بريدنيستروفيه" لدى موسكو ليونيد ماناكوف في 8 مايو 2023 لزيادة عدد قوات حفظ السلام الروسية في المنطقة، في إطار لجنة المراقبة المشتركة ضمن اتفاق سلام 1992 إلى مستوى 6 كتائب بعدد 3100 جندي عبر تجنيد الروس المقيمين في المنطقة، والعدول عن قرار تخفيض تلك القوات عام 1995 إلى 450 جنديًا فقط.
يُذكر أن إجمالي عدد القوات الروسية في ترانسنيستريا نحو 1500 جندي تتوزع مهامهم بين حفظ السلام وتأمين مخزون الأسلحة الروسية في قرية كوباسنا، حسب "سي إن إن".
ودخلت أوكرانيا كطرف رئيسي في التصعيد، حيث اتهمت وزارة الدفاع الروسية في 23 فبراير 2024، الجانب الأوكراني بالتدخل في شؤون ترانسنيستريا والتخطيط لتنفيذ "استفزاز مسلح" في المنطقة التي أعلنت استقلالها من جانب واحد عن مولدوفا.
وتوالت الاتهامات لكييف من جانب سلطات الإقليم التي أعلنت في 9 مارس 2024 إحباط محاولة اغتيال لزعيم المنطقة فاديم كرازنوسيلسكي، قبل أن تستهدف مسيرة مفخخة أوكرانية أُطلقت من أوديسا، قاعدة عسكرية في "تيراسبول" عاصمة المنطقة منتصف الشهر الجاري.
(*) تضييقات جمركية وقانونية: علاوة على تداعيات الحرب وإغلاق الحدود مع أوكرانيا في فقدان ترانسنيستريا 1/4 تجارتها الخارجية، حفزت التصريحات الإيجابية من قبل رئيس المجلس الأوروبي شارل ميشيل في ديسمبر 2023 بشأن بدء محادثات انضمام مولدوفا إلى الاتحاد الأوروبي، من اتخاذ كيشيناو إجراءات صارمة لتضييق الخناق على سلطات المنطقة، وأولها في إقرار قانون تجريم الانفصالية في أواخر العام الماضي واعتبارها جريمة جنائية، الأمر الذي من شأن تعريض مسؤولي المنطقة الانفصالية للمساءلة حال دخولهم الأراضي المولدوفية، وثانيها اعتمدت السلطات المولدوفية تغييرًا في القواعد الجمركية، يتضمن فرض رسوم على صادرات وواردات الشركات المحلية بترانسنيستريا بما يضاعف من التزاماتها المالية تجاه كل من تيراسبول وكيشيناو، كما تخطط لفرض حظر دخول سيارات بلوحات معدنية تصدرها سلطات المنطقة الانفصالية إلى الأراضي المولدوفية.
وإجمالًا؛أدت تلك الإجراءات لتصاعد مخاوف قادة المنطقة الانفصالية التي تقدر مساحتها بـ 4163 كم مربع ويبلغ تعداد سكانها نحو 475 ألف نسمة بينهم نسبة كبيرة من الروس والأوكرانيين، ومنها الاتجاه لعسكرة النزاع بين تيراسبول وكيشيناو واتخاذها جبهة متقدمة في معركة أوديسا الأوكرانية التي تمثل المنفذ الأخير لأوكرانيا على البحر الأسود، وتحظى بأهمية استراتيجية لموسكو في الحرب عبر تحييد أوكرانيا عن المنافسة الاستراتيجية مع الغرب.
انعكاسات محتملة
يمثل انسداد الأفق السياسي للحل في ترانسنيستريا في إطار الانقسام بين الأطراف الضامنة للسلام وتجميد المحادثات خطرًا وشيكًا بتوسيع جبهة الحرب، خاصة في ظل ارتباط مصير المنطقة بمستوى التصعيد في أوديسا الأوكرانية التي تمثل رئة ترانسنيستريا ومتنفسها على العالم الخارجي، كما أنها تفصلها في الجانب الآخر عن الجسر البري الممتد إلى البر الرئيسي الروسي.
ويعد الارتكاز الروسي في ترانسنيستريا محوريًا في إطار سياستها "الإنسانية" المعنية بحماية الحقوق الثقافية للناطقين بالروسية في الخارج، والذين يقدر عددهم وفق البيانات الروسية بنحو 220 ألف نسمة في المنطقة، بينما تؤكد البيانات الغربية والمولدوفية تفوق عدد المولدوفيين على الأقلية الروسية (والأوكرانية) بإجمالي 350 ألف نسمة في 2023، كما تتولى روسيا حماية أكبر مخزن للذخيرة خارج روسيا يعود للعهد السوفييتي بإجمالي (20 ألف طن) بقرية كوباسنا.
(&) تصعيد مشروط: وجه برلمان المنطقة الانفصالية نداءً لمجلس الدوما ومجلس الاتحاد الروسيين؛ طلبًا للحماية الروسية بنهاية فبراير 2024، في أول رد فعل على الإجراءات المتخذة من جانب كيشيناو والتي تهدف لتجريد حكومة الإقليم من سلطاته وقدراته المالية، لكن تيراسبول من غير المحتمل أن تذهب لخطوة الاستفتاء على الانضمام إلى روسيا، دون ضمان حماية روسية مسبقة وكافية.
وربما يكون الجانب الأوكراني هو الأكثر استفادة من تصعيد الأزمة، في ظل تكثيف الهجمات الروسية على المناطق الغربية ابتداءً من العاصمة كييف إلى لفيف وصولًا إلى أوديسا التي تحظى بمكانة استراتيجية وتاريخية لروسيا، فمع تراجع الدعم العسكري الغربي تظهر أوكرانيا رغبتها دفع الشركاء الغربيين إلى ساحة المعركة، لضمان استمرار تدفق المساعدات العسكرية والدعم المعلوماتي.
ومع أهمية تصفية الجيب الانفصالي لضمان أمن أوديسا، إلا أن احتفاظ كييف بأدوات ضغط على موسكو وتيراسبول عبر إمدادات الغاز الروسية المجانية إلى المنطقة عبر الأراضي الأوكرانية والتي تنتهي في ديسمبر 2024، إلى جانب تعطيلها محادثات (5+2) يضمنان استمرار نفوذها على المنطقة ويمنعان الالتفاف الروسي منها على أوديسا، بينما تفضل روسيا التقدم بالتوازي في مجمل الإقليم الغربي لخفض وتيرة الهجمات النوعية الأوكرانية.
(&) الإبقاء على التوازن الراهن: في إطار توازن الضعف بين الاتحاد الأوروبي وروسيا في الحالة المولدوفية، لا يبدو أن التصعيد المفتوح يخدم أيًا من الطرفين، إذ لا يمكن لروسيا أن تفتح جبهة جديدة في أوروبا دون تعزيز وحدة أوروبا وتقوية الاتحاد الأوروبي واستدعاء رد فعل عسكري غربي لمواجهة ما يرونه تكرارًا لسيناريو الحرب العالمية الثانية، وفي جورجيا تلوح سلطات أوسيتيا الجنوبية الانفصالية بخطوات مماثلة، عبر تنظيم استفتاء الانضمام إلى روسيا. وعلى الجانب الآخر وبينما لا ترغب بروكسل في هزيمة أوكرانيا عبر تأكيد صمود وتوسع الاتحاد الأوروبي في مواجهة روسيا، إلا أن قدرات الاتحاد الدفاعية والصناعية لا تزال غير قادرة على مواصلة دعم أوكرانيا، بالتوازي مع تعزيز قدراتها الدفاعية والعسكرية وبالتالي ترغب في تأجيل تلك المواجهة بقدر الإمكان عبر دعم الإجراءات الاقتصادية؛ لتعزيز ارتباط المناطق الانفصالية ببلدانها دون استفزاز عسكري واسع النطاق يقوض التوازن القائم على الأرض.
إجمالًا؛بالنظر لطبيعة الصراع المدوَّل بالأساس في ترانسنيستريا وغياب التوافق على آليات لتسوية النزاعات، بعدما تضررت منظمة الأمن والتعاون في أوروبا بالحرب الروسية الأوكرانية، يبقى التوازن الهش سمة رئيسية في جنوب شرق أوروبا في إطار التنافس بين الاتحاد الأوروبي والاتحاد الأوراسي، وترتبط خطورة الموقف في المنطقة بالتصعيد القائم في أوديسا ومدى إحباط كييف في خسارة معركة الجنوب، والتي تهدد بتقويض الدولة الأوكرانية.