في الـ 28 من فبراير أعلن الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي في احتفالية " قادرون باختلاف"، أن جزءًا من المبالغ المُعلن عنها في اتفاق "رأس الحكمة" دخلت إلى البنك المركزي المصري، حيث وقعت الحكومة المصرية أكبر مشروع استثماري مع الجانب الإماراتي وهو مشروع "رأس الحكمة" في الثالث والعشرين من فبراير، الذي يهدف إلى تطوير وتنمية مدينة رأس الحكمة التي تقع على الساحل الشمالي الغربي، ومن المتوقع بشكل كبير أن يُحقق هذا الاستثمار عائدًا كبيرًا للدولة المصرية، واستقرارًا ملحوظًا في العديد من المؤشرات الاقتصادية الكلية.
وتأسيسًا على ما سبق يناقش هذا التحليل العوائد الاقتصادية لمشروع رأس الحكمة، من حيث تأثيراته على المؤشرات الكلية في الاقتصاد المصري.
والجدير بالذكر هنا أن صفقة "رأس الحكمة" تُعبر عن مشروع شراكة وليس بيع، إذ أشار رئيس الوزراء المصري " مصطفى مدبولي" إلى أن هذا المشروع لا يُمثل بيعًا للأصول وإنما شراكة، حيث ستحصل الدولة المصرية على 35% من أرباح المشروع خلال مدة تنفيذه.
ملامح الصفقة
يُمكن توضيح ملامح صفقة مشروع "رأس الحكمة" من خلال النقاط التالية:
(-) المشروعات المُخططة: ستأتي تنمية منطقة "رأس الحكمة" عن طريق شركة "أبو ظبي التنموية القابضة" التي ستصبح شركة مساهمة مصرية، فالمخطط أن تكون هذه المنطقة مدينة عمرانية متكاملة، من خلال تنفيذ العديد من المشروعات بها، حيث ستحتوي المدينة على أحياء سكنية تُناسب جميع المستويات وفنادق عالمية، ومنطقة خدمية تحتوي على صناعات تكنولوجية وخدمات لوجستية، بالإضافة إلى حي مركزي للمال والأعمال الذي سيجذب مختلف الشركات العالمية؛ للاستثمار في المنطقة، ووفقًا للخريطة رقم (1) يتضح أنه من المقترح إنشاء ميناءين دوليين ومطار دولي، الأمر الذي سيربط المدينة بمختلف دول العالم، مما يجعلها مزارًا سياحيًا عالميًا، خاصة مع المنتجعات السياحية التي سيتم إنشاؤها في المنطقة.
(-) الاتفاق المالي للصفقة: يُعتبر الجزء المالي للصفقة من الأمور الهامة التي لابد من توضيحها، فقد بلغت قيمة المرحلة الأولى من الصفقة 35 مليار دولار، إذ ستكون الشريحة الأولي منها مُستحقة بعد أسبوع من توقيع الصفقة بقيمة 15 مليار دولار، منها 5 مليارات دولار وديعة مسبقة من قبل دولة الإمارات العربية المتحدة في البنك المركزي المصري، وقد أوضح الرئيس عبد الفتاح السيسي أن جزءًا من المبالغ المُعلن عنها في الاتفاق وصلت إلى البنك المركزي، وسيتم استثمار الأموال المتبقية في غضون شهرين وستشمل 14 مليار دولار من الأموال الجديدة، و6 مليارات دولار من الودائع الإماراتية في البنك المركزي، وسيتم تحويلها إلى الجنيه المصري واستثمارها في المشروع.
عوائد هامة
يحمل مشروع رأس الحكمة في طياته العديد من العوائد الاقتصادية الإيجابية والتي سيتم توضيحها على النحو التالي:
(-) ارتفاع السيولة الدولارية: تتحقق السيولة الدولارية من خلال مؤثرين، المؤثر المباشر وهو المتمثل في التدفقات المالية التي حصل عليها الاقتصاد المصري نتيجة التوقيع الرسمي على المشروع، إذ سيدخل الاقتصاد المصري تدفقات دولارية جديدة بقيمة 24 مليار دولار ، فضلاً عن 11 مليار دولار سيتم تحويلها من الودائع الإماراتية إلى الجنيه المصري، أي يبلغ الإجمالي 35 مليار دولار ، وهو ما يُعادل إجمالي الاحتياطي النقدي الأجنبي في الدولة المصرية كما يوضح الشكل (1) الذي يُشير إلى أن حجم الاحتياطي النقدي الأجنبي في مصر بلغ حوالي 35 مليار دولار في الثلاث أشهر الأخيرة من عام 2023 وبداية عام 2024، وهو ما يدل على ضخامة العائد الدولاري من مشروع رأس الحكمة، بينما يتمثل المؤثر الثاني في التدفقات الدولارية المُستقبلية التي ستنتج من الاستثمار في منطقة رأس الحكمة، والتي تقدر بحوالي 150 مليار دولار طوال مدة المشروع، وهو ما يعمل على زيادة السيولة الدولارية بشكل كبير داخل الدولة المصرية.
(-) استقرار سوق الصرف: تمثل التأثير السريع لمشروع رأس الحكمة والإعلان عن التدفقات الدولارية للمشروع في انخفاض العقود الآجلة للدولار الأمريكي غير القابلة للتسليم لأجل 12 شهرًا مقابل الجنيه المصري، إذ بلغ تداولها ذروته في نهاية شهر يناير 2024، إذ بلغت 66.7 جنيهًا، ولكنها تراجعت في يوم 25 فبراير أي بعد إتمام صفقة مشروع" رأس الحكمة" إلى 48 جنيهًا، وهو الأمر الذي انعكس على استقرار سعر الصرف داخل السوق المصرية، إذ كان يُعاني من فجوة بين السعر الرسمي والسعر الموازي، ولكن بعد إتمام الصفقة الاستثمارية انخفض قيمة الدولار بشكل كبير في السوق السوداء كما يوضح الشكل (2) الذي يُشير إلى أن المنحنى كان مرتفعًا في شهر يناير وأوائل شهر فبراير، ولكن بدأ في الانخفاض مع بداية الإعلان عن الصفقة في النصف الثاني من شهر فبراير، حتى انخفض بشكل كبير في 27 فبراير، إذ سجل 51 جنيهًا، وتتابع الانخفاض حتى بلغ 48 جنيهًا في 29 فبراير، بعدما تجاوز الـ 70 جنيهًا خلال شهر يناير، وهو ما يوضح الانهيار الكبير لسعر الدولار في السوق السوداء، واقترابه من السعر الرسمي في البنك المركزي في 29 فبراير الذي سجل 30.90 جنيه.
(-) انخفاض حجم الدين الخارجي: تتضمن الصفقة تحويل جزء قيمته 11 مليارات دولار من الودائع الإماراتية لدى البنك المركزي المصري إلى الجنيه المصري وإنفاقه على المشروع، وهو ما يعني أن الديون الخارجية للدولة المصرية ستنخفض بمقدار 11 مليار دولار، إذ سينخفض حجم الدين الخارجي بمقدار 5 مليارات دولار بعد أسبوع من توقيع الصفقة، و 6 مليارات دولار بعد شهرين، كما سينخفض عبء تكلفة هذا الدين عن الدولة، فبدلاً من أن تخرج هذه الأموال خارج الدولة المصرية، سيستفيد الاقتصاد منها بشكل كبير، إذ ستدخل في دورة النقود داخل الاقتصاد، حيث سيتم تحويلها من وديعة إلى استثمار يُضخ داخل الدولة، مما يؤثر بالإيجاب على جميع قطاعات الدولة المصرية.
(-) ارتفاع معدلات النمو الاقتصادي: يُعتبر الاستثمار الأجنبي المباشر، خاصة طويل الأجل، دالة أساسية في معادلة النمو الاقتصادي، حيث إن الإنتاج في أي وحدة اقتصادية يعتمد بشكل كبير على رأس المال المُستثمر في تلك الوحدة، وأثبتت دراسة اقتصادية لصندوق النقد الدولي، أن مساهمة الاستثمار الأجنبي المباشر في نمو الناتج المحلي الإجمالي قدرت بحوالي 3% سنويًا، وهو ما يوضح أن ضخ 150 مليار دولار طوال مدة تنفيذ المشروع، سيعمل على زيادة معدلات النمو في مصر بنسبة لا تقل عن 2% سنويًا، كما قدر بنك مورجان ستانلي أن الصفقة ستُغطي 9% من الناتج المحلي الإجمالي، وثلاث سنوات من الفجوة المالية في مصر، إذ ستحصل مصر على 35% من أرباح المشروع.
وبالإضافة إلى ذلك ووفقًا لأحدث تقرير صادر عن منظمة التعاون الاقتصادي(OECD)، الذي توقع أن ينمو الناتج المحلي الإجمالي في مصر إلى 5.1 % بحلول السنة المالية 2025/2026، وهو ما يوضحه الشكل (3) الذي يُشير إلى أن معدلات النمو في مصر تذبذبت بين الارتفاع والانخفاض خلال الفترة من 2019 إلى 2023، حتى سجلت 3.8% في عام 2023، ولكن مع تحركات الدولة المصرية بتشجيع الاستثمارات الأجنبية المباشرة، من المتوقع أن يرتفع المُعدل إلى 5.1% في عام 2025، بحسب توقعات المنظمة.
(-) انخفاض معدلات التضخم: تأثر السوق المصري بشكل كبير خلال عام 2023 من الأحداث الإقليمية والأزمات العالمية، وهو ما جعل معدلات التضخم في مصر ترتفع إلى 41% في يونيو 2023، ولكن بفضل جهود الدولة المصرية في محاولات ضبط الأسواق انخفض هذا المعدل إلى 29% في يناير 2024 وفقًا لبيانات الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء، ومن المتوقع بشكل كبير أن تنخفض معدلات التضخم بعد توقيع صفقة "رأس الحكمة" وتشغيل المشروع في أوائل عام 2025، إذ ذهبت التوقعات أن ينخفض إلى 19.88% في عام 2025 ويستمر في الانخفاض حتى يصل إلى 9.5% في عام 2028 كما يوضح الشكل (4)، الأمر الذي سيعمل على ضبط الأسعار في السوق، وهذا بفضل تأثير الصفقة على استقرار سعر صرف في السوق المصري.
(-) زيادة فرص العمل: من المميزات الهامة في صفقة مشروع "رأس الحكمة" أن المشروعات الاستثمارية داخل المدينة سيتم تنفيذها من خلال شركات عقارية وشركات تطوير عقاري مصرية مثل مدن العقارية ومجموعة طلعت مصطفى وغيرها من الشركات الأخرى، وهو الأمر الذي يدل أن معظم العمالة التي ستعمل في هذا المشروع هي عمالة مصرية خالصة، مما سيؤدي إلى توفير ملايين من فر ص العمل، وهو الأمر الذي سيعمل على تخفيض معدلات البطالة بشكل كبير في الدولة المصرية.
(-) إنعاش السياحة المصرية: تلتزم الشركة المُطورة للمشروع "شركة" ADQ بتطوير رأس الحكمة لتصبح واحدة من الوجهات السياحية الأكثر جاذبية في مصر، من خلال تمكين مشاريع البنية التحتية والتنمية الضخمة، وبالشراكة مع "هيئة المجتمعات العمرانية الجديدة"، سيتم استغلال المقومات السياحية في هذه المنطقة، وتحويلها إلى مزارات سياحية هامة، ومن هنا توقع الخبراء الاقتصادين أن "رأس الحكمة" ستجذب ما لا يقل عن 8 ملايين سائح، وهو الأمر الذي سيُنعش السياحة المصرية ويُحقق الاستراتيجية الوطنية للسياحة المُستدامة في مصر، التي تستهدف زيادة الحركة السياحية إلى 30 مليون سائح حتى عام 2028، ومن ناحية أخرى سيؤثر انتعاش هذا القطاع على العوائد الدولارية للدولة المصرية بشكل كبير.
وعليه، يُمكن القول إن صفقة مشروع "رأس الحكمة" تعبر عن النظرة المستقبلية للقيادة السياسية المصرية، ودليل على الحنكة الاقتصادية التي تضع حلولاً جذرية للمشكلات التي يواجهها الاقتصاد المصري نتيجة الأزمات الخارجية، إذ إن التوجه نحو توطين الاستثمارات الأجنبية المباشرة داخل الدولة المصرية، والعمل على تنشيط مشاركة القطاع الخاص في التنمية، سيعمل على التأثير إيجابيًا في جميع المؤشرات الاقتصادية وزيادة مرونة الاقتصاد، ومن هنا تُعد صفقة "رأس الحكمة" بمثابة البداية الحقيقية لانتعاش الاقتصاد المصري.