وقعت مصر، أمس الجمعة، اتفاقية شراكة استثمارية ضخمة مع الإمارات لتطوير مدينة رأس الحكمة بمحافظة مطروح، في واحدة من الصفقات التي وصفها رئيس الوزراء المصري مصطفى مدبولي، بأنها أكبر صفقة استثمار مباشر في تاريخ البلاد.
ويعد الاستثمار الأجنبي المباشر من أهم أوجه الأنشطة الاقتصادية بصفة عامة، إذ إنه يضطلع بدور رئيسي ومهم على صعيد عملية التنمية الاقتصادية والاجتماعية في معظم الدول وخاصة النامية، لذلك تولى كل الدول عناية كبيرة به، وتقرر الحوافز والضمانات له. فمثل هذا الاستثمار يمثل قناة رئيسية يتدفق عبرها رأس المال والخبرة العلمية والفنية، بالإضافة إلى أثر هذه الاستثمارات في النمو والتنمية الاقتصادية في البلاد المضيفة.
فهذه الاستثمارات تزيد من حجم الجهد الاستثماري الممكن تحقيقه في البلد المتلقي عن ذلك المستوى الذي تُتيحه له مدخراته المحلية، فهذه الاستثمارات تساعد الدولة المتدفقة إليها على الاستفادة من مخزون المدخرات العالمية الذي أفرزته الاقتصاديات الأخرى، وبالتالي تمكنه من تحقيق معدلات نمو أعلى من تلك الممكنة في حدود إمكاناته الاستثمارية الذاتية فقط. هذا إضافة إلى أن هذه الاستثمارات تحمل معها خصائص الاقتصاد النابعة منها، وبالتالي فإنها تمثل إعادة توطين لهذه الخصائص في البلد المتلقي، وهو الأمر الذي يكون له جاذبية خاصة في حالة تدفق هذه الأموال من الدول ذات التفوق والتقدم التكنولوجي.
وتأسيسًا على ما سبق، تثار العديد من التساؤلات أهمها: ما المكاسب المتوقع تحقيقها من تنفيذ هذا المشروع عبر شراكة الحكومة المصرية مع القطاع الخاص الإماراتي؟ وما أهم الانعكاسات والدلالات التي يكشف عنها إبرام صفقة هذا المشروع؟ وكيف يمكن تصور منطقة رأس الحكمة مستقبلًا؟
وفي إطار السعي للإجابة عن التساؤلات السابقة، يستعرض هذا التحليل النقاط الأساسية التالية:
دلالات وانعكاسات مهمة
تكشف القراءة المبدئية لهذا المشروع عن العديد من النتائج ذات الدلالات الاقتصادية المهمة، والتي يأتي في مقدمتها ما يلي:
(*) صمود الاقتصاد المصري أمام الأزمة الاقتصادية العالمية الراهنة عبر التوسع في الشراكة مع القطاع الخاص لتنفيذ المشروعات التنموية الضخمة: فهذا المشروع يؤكد عزم الدولة المصرية على التوسع وتبني المزيد من مشروعات الشراكة بين القطاعين العام والخاص، التي تقوم بالأساس على وجود تعاون إيجابي يقوم على ثنائية التفكير: الأول حكومي يأخذ البعد الاجتماعي والاقتصادي لطبقات المجتمع في الاعتبار، والآخر ذو طابع خاص يبحث عن الاستثمار بغية تنمية الأرباح، إلا إن نقطة الاتفاق بين نمطي التفكير هو وحدة الحركة في اتجاه التنمية المستدامة. من هنا، تأتي أهمية إعطاء الفرصة للقطاع الخاص للمشاركة في تنفيذ المشروعات التنموية الكبرى، على شاكلة مشروع تنمية رأس الحكمة التي تحتاجها الدولة المصرية في الجمهورية الجديدة.
(*) زيادة تدفق الاستثمارات العربية الداعمة للاقتصاد المصري خاصة وقت الأزمات: في وقت الأزمات تتزايد الاستثمارات العربية المتدفقة لمصر خاصة مع قسوة الأزمات الاقتصادية، مثل تلك التي تمر بها مصر في الوقت الراهن بفعل الظروف الدولية (الحرب الروسية الأوكرانية) والظروف الإقليمية في المنطقة العربية (الحرب على غزة). فالاستثمارات الإماراتية في منطقة رأس الحكمة تؤكد ما خلص إليه البعض من أن الاستثمارات العربية المتدفقة لمصر تتزايد وقت الأزمات مثل تلك التي شهدتها مصر عقب أحداث 25 يناير مقارنة بالاستثمارات الأجنبية.
(*) تحقيق المزيد من الثقة بين الحكومة وشركات القطاع الخاص: يمثل هذا المشروع استجابة لمطالب وتطلعات القطاع الخاص الساعي إلى تحقيق شراكة مع الجانب الحكومي المصري، خاصة وأن الظروف الحالية واداعاءات المشككين قد تؤثر في قرارات المستثمرين بالشراكة مع الحكومة المصرية. فالمستثمرون يطالبون بضرورة تحمل الحكومة جزءًا من مخاطر مشروعات المشاركة وعدم إلقاء العبء بالكامل على القطاع الخاص، خاصة وأن الحكومة في النهاية من حقها أن تملك جزءًا من هذه المشروعات؛ فهناك بعض المخاطر تتعرض لها مشروعات المشاركة مع القطاع الخاص في مصر في الوقت الراهن بفعل الأزمة الاقتصادية العالمية، ومن أهم هذه المخاطر تغيير أسعار الصرف، وارتفاع تكلفة الاقتراض.
(*) يؤكد المشروع على زيادة توجه الدولة المصرية نحو اقتصاديات السوق؛ إذ يقتصر دور الدولة على الرقابة والتنظيم، فبعد أن كانت الخصخصة تحتل منذ التسعينيات من القرن الماضي مركز الصدارة في السياسات الاقتصادية كإحدى أهم الأدوات لتنفيذ برنامج الإصلاح الاقتصادي والتكيف الهيكلي، تقدم الشراكة بين القطاعين العام والخاص في الوقت الراهن وصفة اقتصادية جديدة تحتل بها المكانة التي كانت تحتلها الخصخصة في السياسات الاقتصادية في الماضي.
إجمالًا، يعكس هذا المشروع اهتمام الحكومة المصرية بتحقيق مستهدفاتها التنموية باستخدام منهج جديد يقوم بالأساس على تفعيل الشراكة مع القطاع الخاص، بهدف التوسع والزيادة في الاستثمارات الخاصة بتنفيذ المشروعات التنموية الضخمة، وذلك في ضوء خطة الإصلاح الاقتصادي واستراتيجية تشجيع استثمار القطاع الخاص وزيادة دوره في تنفيذ هذه المشروعات، وتحفيز القطاع الخاص على زيادة مساهمته فيها.
مكاسب كبرى مستهدفة
يستهدف المشروع تنمية المنطقة لتصبح واحدة من أكبر مشروعات تطوير المدن الجديدة، ومن المتوقع بشكل إجمالي، أن يُدّر هذا المشروع على مصر 150 مليار دولار استثمارات على مدار عمر المشروع. وسيتم تنفيذ المشروع بأسلوب المشاركة بين هيئة المجتمعات العمرانية المصرية، وشركة أبو ظبي التنموية القابضة. وبصفة عامة، تسعى الجهات الحكومية عند تبني هذا الأسلوب في تنفيذ المشروعات التنموية الضخمة- مثل مشروع رأس الحكمة- إلى تحقيق فائدتين: أولهما، زيادة الاستثمارات في تمويل مثل هذه المشروعات الكبرى، والتي لا غنى عنها لتحقيق النمو والتنمية، وذلك من خلال دعم رأس المال العام برأس المال الخاص، وتتمثل الثانية في السماح للقطاع العام بالاستفادة من مهارات القطاع الخاص وقدرته على الابتكار وتنمية قدراته وإمكانياته. وفي ضوء ذلك يمكن تحديد بعض المكاسب المتوقعة لتنفيذ مشروع تنمية رأس الحكمة بالشراكة مع القطاع الخاص الإماراتي، فيما يلي:
(*) تخفيف الأعباء عن الموازنة العامة للدولة المصرية: وذلك عن طريق المساهمة المالية مباشرة من المستثمر الخاص الإماراتي. فرأس مال القطاع الخاص يساعد في توفير التمويل المطلوب لتنفيذ المشروعات التنموية. لذلك تتضمن صفقة المشروع سداد الجانب الإماراتي 35 مليار دولار، مقدمًا خلال شهرين، على أن يكون لمصر 35% من أرباح المشروع على مدار عمره. فالمبلغ الذي سيتم سداده مقدمًا يشمل 11 مليار دولار ودائع إماراتية في البنك المركزي، سيتم التنازل عنها وتحويلها إلى الجنيه المصري لاستثمارها في المشروع، وهو ما يعني إسقاطها من بند الديون الخارجية على مصر. فمن شأن هذا المشروع، أن يساهم في الحد من التأثير الحالي لأزمة النقد الأجنبي واقتراض الدولة، وبالتالي تخفيض الأعباء التمويلية الواقعة على ميزانية الدولة.
وهو الأمر الذي يُتوقع معه، التأثير الإيجابي لهذه الصفقة على تحسين شروط الاتفاق الوشيك بين الحكومة المصرية، وصندوق النقد الدولي. وتجدر الإشارة في هذا الخصوص إلى أن توجه مصر نحو سياسات الشراكة بين القطاعين العام والخاص جاء في إطار التوصية بتبني تلك السياسات من جانب المؤسسات المالية الدولية، وفي مقدمتها صندوق النقد والبنك الدوليان اللذان تضمنت مساعداتهما الفنية تشجيع مشاركة القطاع الخاص في تنفيذ المشروعات التنموية الكبرى.
(*) تحقيق الاستفادة من خبرة القطاع الخاص في إدارته للمشروعات التنموية الكبرى: فمن شأن هذه الخبرة، ضمان السرعة في الانتهاء من المشروع اعتمادًا على مرونة القطاع الخاص وقدرته على تعبئة الموارد؛ حيث تحقق المشاركة مع القطاع الخاص فرص البدء الفوري في تنفيذ المشروع بدلًا من الانتظار لفترات طويلة لحين توافر الموارد اللازمة من ميزانية الدولة. كما أن التنفيذ السريع للمشروع له آثاره الإيجابية السريعة على المجتمع المحلي في مطروح والعلمين والسلوم.
بالإضافة إلى ما يوفره هذا القطاع من معرفة ومهارات تراكمت لديه عبر خبراته السابقة في المشروعات الكبرى مثل مشروع رأس الحكمة؛ حيث تمثل تلك المعرفة والمهارات والخبرات آفاق جديدة يمكن أن يستفيد منها القطاع العام الذي سيتولى إدارة مشروعات تنموية مماثلة.
(*) مكاسـب متـوقعـة للقطـاع الخـاص الإماراتي: الاستفادة من عوائد مشروع على درجة عالية من التأكد أو الثقة في تحقيقه للأرباح بما يضمن للشريك الإماراتي الحصول على عائد مناسب على استثماراته. فضلًا عن أن هذا المشروع يمثل فرصة لتوسيع أعمال أو مشروعات هذا الشريك مستقبلًا في مصر، اعتمادًا على سابقة شراكته مع الحكومة المصرية في تنفيذ مشروعات كبرى، بحجم مشروع رأس الحكمة.
ويتأكد ذلك مع ما أشار إليه محمد حسن السويدي، العضو المنتدب والرئيس التنفيذي لشركة أبو ظبي التنموية القابضة (ADQ) من أن هذه الشركة تمثل شريكًا استثماريًا على المدى الطويل لجمهورية مصر العربية، وتحرص الشركة على انتقاء استثمارات نوعية تتماشى مع إطارنا الاستثماري وتعود بالنفع على الاقتصاد الوطني. ويأتي الاستثمار في منطقة رأس الحكمة ضمن الالتزام بتحويل المنطقة إلى واحدة من أهم الوجهات الساحلية الفاخرة والأكثر جاذبية في مصر، عبر تمكين مشروعات التطوير والبنية التحتية الحيوية، لخلق فرص عبر قطاعات متعددة في الاقتصاد المصري المتنوع.
(*) مكاسب عديدة متوقعة للمواطن المصري: يستفيد المواطنون المصريون عندما تتكامل جهود وخبرات الجهات الحكومية المصرية مع الشريك الخاص؛ فالمصلحة العامة أمر تسعى إليه الحكومة وتهتم به، ويمكن تحقيقه من خلال الشراكة مع القطاع الخاص بهدف دفع عجلة التنمية الاجتماعية والاقتصادية والحفاظ على معدلات نمو مرتفعة، بما يحقق خلقًا لفرص عمل جديدة وبمستويات دخول أعلى دون الإخلال بالتزامات الدولة تجاه مواطنيها. فتحفيز القطاع الخاص لزيادة استثماراته المباشرة في المشروعات التنموية الكبرى، وبالتالي تشجيع الاستثمار المحلي والأجنبي، وما يرتبط بذلك من زيادة في النمو الاقتصادي وخلق فرص العمل على المدى الطويل، وتخفيض معدلات الفقر.
مستقبل واعد لرأس الحكمة
يسهم المشروع في تعزيز المميزات الجاذبة لرأس الحكمة كوجهة مالية وسياحية دولية متميزة، تتبنى أحدث حلول المدن الذكية الرقمية والتكنولوجية. رأس الحكمة، هي منطقة ساحلية تمتد على بعد 350 كيلومترًا تقريبًا في شمال غرب القاهرة، عاصمة مصر، ويمثل هذا الاستثمار المهم خطوة محورية نحو ترسيخ مكانة رأس الحكمة كوجهة رائدة من نوعها لقضاء العطلات على شواطئ البحر الأبيض المتوسط، ومركز مالي ومنطقة حرة مجهزة ببنية تحتية عالمية المستوى لتعزيز إمكانات النمو الاقتصادي والسياحي في مصر. لذلك حرصت الحكومة المصرية على الاحتفاظ بحصة قدرها 35% في مشروع تطوير رأس الحكمة التي ستصبح مدينة من الجيل التالي؛ تتألف بشكل رئيسي من المرافق السياحية ومنطقة حرة ومنطقة استثمارية، إلى جانب توفر المساحات السكنية والتجارية والترفيهية بالإضافة إلى سهولة الاتصال المحلي والدولي من المنطقة.
سيكون المخطط الرئيسي لرأس الحكمة رائدًا في الحلول المبتكرة التي تحقق تأثيرًا إيجابيًا طويل المدى مصممًا لجذب الاستثمار الأجنبي المباشر وتعزيز التجارة ودعم القطاع الخاص في مصر من خلال برنامج التوطين داخل البلاد وخلق فرص عمل جديدة لتعزيز الفوائد الاقتصادية لجمهورية مصر العربية. ستكون رأس الحكمة وجهة عالمية المستوى في البحر الأبيض المتوسط تشمل مناطق جذب مميزة، بما في ذلك المطار والفنادق ومراسي اليخوت والمرافق الترفيهية، وتعد الاستدامة سمة أساسية في المخطط الرئيسي المتوقع تنفيذه لضمان الحفاظ على النظم البيئية المحلية وإنشاء مكان رائع للعيش والعمل والترفيه في أحد أرقى المشروعات التطويرية المتكاملة في مصر.
وفي النهاية، يمكن القول إن مشروع تطوير منطقة رأس الحكمة يؤكد على أنه يتوفر لدى مصر العديد من الإمكانيات والمقومات الاقتصادية الجاذبة للقطاع الخاص الساعي للمشاركة الجادة مع الحكومة المصرية في تنفيذ المشروعات التنموية الكبرى بما يحقق مكاسب للجميع. فهذه المشروعات تمثل فرص تنموية واستثمارية كبرى في آن واحد، ويمثل مشروع تطوير رأس الحكمة فرصة واحدة فقط من الفرص المتوفرة في مصر بصفة عامة، وفي ساحلها الشمالي بصفة خاصة. فهذا الساحل يحظى باهتمام هائل من المستثمرين العالميين، ما يفتح المجال واسعًا أمام المزيد من الشراكات الدولية لتنمية هذا الساحل بأكمله.