"مع الأسف الشديد أنا تاريخ فني عظيم".. هكذا عرّفَت بديعة مصابني مشوارها الفني، فمشوارها لم يكن سهلًا، ورغم النجاحات الكبيرة التي حققتها إلا إنها دائمًا كانت تواجه خيبات أمل، لكنّ هذا لم يُضعِفها وحمّسها لتتربع على عرش المسرح الغنائي لمدة 40 عامًا، فهى رائدة من رواد هذا الفن، وأخلصت منذ اللحظة الأولى له، وتمنت أن تصل يومًا لتلك المكانة التي تستحقها، فهى كانت تحلم بأن تغير مفهوم الدول العربية عن الاستعراضات، وفعلت هذا بتاريخها.
بديعة مصابني، التي وُلدت في 25 فبراير 1892، وتوافق ذكرى ميلادها اليوم، دخلت الفن بالصدفة، تحكى عن نشأتها والبدايات قائلة: "والدي من بيروت وأمي من الشام، وعشت معها في سوريا طويلًا، حتى سافرت إلى أمريكا وأنا في عمر 10 سنوات، وشقيقتي تزوجت هناك، وعشت في المهجر، أتقنت الإسبانية والفرنسية، وتعلمت الرقص الإيقاعي، ونظرًا لجمالي في الصغر وموهبتي في التحدث بلغات مختلفة، كانوا يعطوني أدوارًا في مسرحيات وأعمال فنية وأنا صغيرة، حتى إني شبعت من الفن في الصغر".
استغلت بديعة مصابني كل مواهبها وخبراتها وقررت أن تُكمِل حلمها ومشوارها في الفن لتصرف على عائلتها الفقيرة، وفي فترة صباها كانت تحصل في الحفل على 300 جنيه ذهب عثمانلي، حسب روايتها في أحد اللقاءات المتلفزة، وسافرت لكل البلاد العربية.
رحلتها إلى مصر
تحكي "مصابني" عن رحلتها إلى مصر وبدايتها الفنية: "أول مرة أذهب إلى مصر كان من أجل لعب الباتيناج، ورآني وقتها فؤاد سليم الذي كان يعمل مع جورج أبيض وتحدث معي باللغة العربية ووجدني أتحدث (عربي مكسر)، فوجدته يقول لي: تحبي تشتغلي في التمثيل؟ وقدمني لجورج أبيض واعتني بي وعلمني اللغة العربية، وأصبحت أقرأ بطلاقة".
وتابعت: "والدتي كانت تريد أن نعود، ولكني رفضت ولكنها صممت، فهربت منها بحيلة بسيطة، ذهبت إلى محطة القطار وحجزت لها تذكرة عودة وعندما ذهبت جعلتها تركب وتركتها، ووقتها عمري كان 14 عامًا، وبقيت في مصر، وكان في البداية يعطوني أدوارًا صغيرة ونجحت مع فرقة تتجول بالأرياف، ونجحت فأعطوني أدوارًا كبيرة وأنا كنت أجيد كل المهن، كنت أحفظ بشكل جيد وذاكرتي كانت قوية ولست كسولة ونشطة جدًا".
عادت بديعة مصابني بعد هذا النجاح الكبير إلى سوريا، وكونت فرقة خاصة بها، وعن ذلك قالت: "كنت أتردد في تلك الفترة على بيروت كثيرًا، وهناك قابلت نجيب الريحاني ووقتها كان يغني بين الفصول ورآني فنادي عليّ وتعرفنا وذهبنا سويًا إلى مصر وعملت معه في المسرح".
زواج بديعة مصابني ونجيب الريحاني
تزوجت بديعة مصابني من نجيب الريحاني في عام 1925، واستمر زواجهما حتى عام 1949، ولعب الريحاني دورًا فنيًا كبيرًا، وشكلا ثنائيًا مهمًا، فيما كشفت سبب الانفصال قائلة: "قدمنا أنا وهو العديد من الحفلات الناجحة، وعملنا سويًا في المسرح ولكن بعد مرور سنوات انفصلنا بسبب أن طباعنا مختلفة، فنحن كنّا مختلفيّن تمامًا لذلك قررت أن أسير الطريق وحدي".
قبل الانفصال، أسست بديعة شركة إنتاج في عام 1936 وقدمت فيلم "ملكة المسارح" وجسدت هي دور البطولة، لكن لم يحقق النجاح المطلوب، وبقيت في المسرح مع فرقة نجيب الريحاني.
كازينو بديعة
بعدما تركت "بديعة" التمثيل وانفصلت عن نجيب الريحاني، قررت أن تقيم "مسرح بديعة"، وتحكي قائلة: "طوّرت الرقص الشرقي حتى لا يكون مملًا، ودمجت الموسيقى العربي مع الأفرنجي، فالعربي وحده لم يكن يشبع الجمهور لذلك قررت التطوير، وكنت أسافر إلى أوروبا كل عام وأعود لأطور مسرح بديعة وبذلت مجهودًا كبيرًا لصناعة عالمي، فقد كان لديّ 3 طوابق في مصر كانت ترفع شعار كامل العدد يوميًا".
وتكمل حديثها عن "كازينو بديعة": "تخرج من عندي العديد من الراقصات لذلك أطلقوا عليا (عميدة الرقص الشرقي)، وكنت أعرف تكتيكات كل أنواع الرقص وفرق معي وجودي في أكثر من دولة، أشهر راقصاتي كانت تحية كاريوكا، ونجاحها الكبير لأن رقصها شرقي أكثر من الكل عندي، وتعلمت مني الصاجات، وكانت تحب أن تغني ولها صوت رائع، وكانت مخلصة في عملها، وأحب سامية جمال وبدايتها من عندي".
وشاركت "بديعة" في خروج العديد من الأسماء التي تألقت في الفن، أبرزهم "بشارة واكيم، ومحمد فوزي، وسامية جمال، وفريد الأطرش، وإسماعيل ياسين، وزينات صدقي، وهاجر حمدي، وحورية محمد، وبيبا عز الدين، ومحمد الكحلاوي، ومحمد عبد المطلب، وحكمت فهمي".
رحيل
في صباح 23 يوليو عام 1974، رحلت بديعة مصابني، لكنها تركت وراءها إرثًا وحكايات لا يمكن رصدها في بضع سطور، فهناك مجلدات وأفلام عن رحلة بديعة مصابني وما قدمته للفن، والرابط بينها جميعًا أن "تلك الأيقونة لا تموت".