انتهى أمس الاحتفال بالذكرى الـ60 لمؤتمر ميونيخ للأمن، الذي يعقد في شهر فبراير من كل عام، إذ يجتمع في ميونيخ سياسيون وقادة أمنيون وعسكريون وخبراء رفيعو المستوى من جميع أنحاء العالم، لمناقشة القضايا الأكثر إلحاحًا المتعلقة بالأمن الدولي.
وتتجلى أهمية مؤتمر ميونيخ للأمن في أنه يشكل منصة مهمة وفريدة من نوعها على مستوى العالم لبحث السياسات الأمنية، فعبره يجتمع كم هائل من ممثلي الحكومات - بما في ذلك الحكومات المعادية لبعضها - وقادة وخبراء في الأمن معًا. فالمغزى من المؤتمر لا يتمثل في برنامجه وحده، لكن الأهم من ذلك هو أن الكثيرين يقدرون الإمكانية التي يقدمها المؤتمر للفاعلين السياسيين على التواصل بشكل غير رسمي في الممرات وتبادل الآراء داخل غرف الاجتماعات، والتعرف على بعضهم البعض، والاستفادة من المواقف، ورسم خطوط حمراء، أو تبادل الأفكار لحل النزاعات.
وتصدرت الحروب في أوكرانيا وغزة، فضلًا عن قضايا الهجرة وتغير المناخ والذكاء الاصطناعي، جدول أعمال المؤتمر في نسخته الحالية. هذا بالإضافة إلى موضوعات مهمة أخرى؛ مثل دور أوروبا في الأمن والدفاع، والرؤى الجديدة للنظام العالمي، والعلاقات بين الغرب والصين، وغيرها.
وفي هذا السياق، تُثار عدة تساؤلات مثل: ما رؤية مؤتمر ميونخ للأمن للتهديدات والمخاطر العالمية؟ وما النتائج المحتملة لمؤتمر ميونيخ للأمن على الصراعات العالمية الحالية الممتدة التداعيات والمتشابكة الأطراف الفاعلة فيها؟
إعادة ترتيب التهديدات العالمية:
كشف تقرير مؤتمر ميونخ للأمن عن أن الهجرة وظاهرة تغير المناخ تشكلان أول وثاني تهديد للأمن العالمي فيما جاءت روسيا ثالثة في الترتيب. وأظهر الاستطلاع عن أن معظم شعوب العالم باتت تخشى من الهجمات السيبرانية والذكاء الاصطناعي. وقد اعتمد إجراء هذا التقرير على استطلاع آراء أكثر من 12 ألف شخص في دول مجموعة السبع بالإضافة إلى البرازيل والهند والصين وجنوب إفريقيا. وقال رئيس مؤتمر ميونخ للأمن كريستوف هيوسجن، إن العالم في 2024 يتسم بمسار منحدر في السياسة العالمية بما يشمل زيادة وتيرة التوترات الجيوسياسية وحالة من عدم اليقين الاقتصادي، فقد كشف هذا التقرير عن تزايد حالة السخط بشكل عام تجاه الوضع الاقتصادي العالمي.
وكشف هذا التقرير الذي يحمل عنوان "الجميع خاسر" عن مخاطر الذكاء الاصطناعي والهجمات السيبرانية. فقد رصد التقرير حالة انعدام الثقة المتزايدة في جميع أنحاء العالم تنعكس أيضًا في إدراك الشعوب حول العالم للخطر الناجم عن الهجمات السيبرانية والجوانب السلبية للذكاء الاصطناعي.
وأشار التقرير إلى أن التقدم التكنولوجي الذي كان ذات يوم محركًا للعولمة ذات المنفعة المتبادلة، تحول إلى سباق من أجل الهيمنة الجيوسياسية. فقد ذهب المشاركون في الاستطلاع بالولايات المتحدة إلى أن هذا التهديد ارتفع بشكل خاص فيما جاء في المرتبة الثانية المشاركون من الهند، وأن الشعوب بشكل عام باتت في حالة خوف بشكل متزايد إزاء حملات التضليل في العالم الرقمي.
نتائج محتملة:
منذ افتتاح أنطونيو جوتيريش، الأمين العام للأمم المتحدة، الجمعة 16 فبراير 2024، وبشكل رسمي مؤتمر ميونيخ الـ60 للأمن، ترقب المحللون نتائج مناقشات نحو 50 من قادة العالم للموضوعات الرئيسية المدرجة على جدول أعمال المؤتمر الأمني، خاصة الصراعات المستمرة في أوكرانيا وقطاع غزة. وفي ضوء ذلك، يمكن تحديد بعض النتائج المحتملة لهذا المؤتمر فيما يلي:
(*) زيادة التوجه الأوروبي نحو الاستقلال الاستراتيجي عن الولايات المتحدة الأمريكية: يتزايد توجه أوروبا من أجل مزيد من الاستقلال الاستراتيجي بعد أن أصبح التزام الولايات المتحدة الدفاع عن حلفائها على نطاق أوسع موضع شك، مع احتمال إعادة انتخاب الرئيس السابق دونالد ترامب. فحتى وقت قريب لم يكن يؤيد هذه الفكرة سوى عدد قليل من الدول، خاصة فرنسا، لكنها تكتسب زخمًا الآن وتم تناولها في التجمع الأمني بميونخ وذلك بعد تصريح ترامب - المرشح الأوفر حظًا للفوز بترشيح الحزب الجمهوري في انتخابات الرئاسة - بأنه لن يدافع عن أعضاء حلف شمال الأطلسي الذين لا ينفقون بالصورة الكافية على الدفاع، ما أثار حالة ذعر في أوروبا.
(*) زيادة المساعدات لأوكرانيا: تضغط ألمانيا على شركائها في أوروبا والولايات المتحدة من أجل "التزامات أكثر حزمًا" بشأن الإمدادات العسكرية لأوكرانيا، وسيتوجه أولاف شولتس، المستشار الألماني، إلى واشنطن لدعم المساعدات من أجل تلبية احتياجات كييف.
وقال بوريس بيستوريوس، وزير الدفاع الألماني، إن بلاده تتوقع 3.5 مليار يورو لإمدادات الذخيرة هذا العام وستسلم إمدادات أكثر بثلاثة إلى أربعة أمثال في 2024 مقارنة بالعام الماضي.
فقبيل انعقاد المؤتمر، زار الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي، كلًا من ألمانيا وفرنسا في مسعى للحصول على مساعدات عسكرية مهمة والتوقيع على التزامات أمنية ثنائية مع اقتراب الحرب مع روسيا من دخول عامها الثالث، وتأتي الزيارة في الوقت الذي تحاول فيه القوات الأوكرانية صد القوات الروسية التي سيطرت على بلدة أفدييفكا الشرقية، وتواجه أوكرانيا نقصًا في عدد الجنود ومخزونات الذخيرة، في حين تأخرت المساعدات العسكرية الأمريكية لعدة أشهر.
ومن الجدير بالذكر هنا، أن هذه أول رحلة خارجية لزيلينسكي منذ أن غير قائد الجيش الذي يتمتع بشعبية كبيرة وأعاد تشكيل القيادة العسكرية، وهي مغامرة كبيرة في مرحلة صعبة بالحرب، لكن الرئيس الأوكراني قال إن "التغييرات ضرورية لمواجهة التحديات المتغيرة في ساحة المعركة"، ويبدو أن ألمانيا وفرنسا ستصبحان الدولتين الثانية والثالثة اللتين توقعان اتفاقيات أمنية ثنائية من شأنها أن تحدد شروط استمرار الدعم حتى تبلغ أوكرانيا هدفها بالانضمام إلى حلف شمال الأطلسي. ولم تُعرف بعد تفاصيل الاتفاقات المقرر توقيعها مع الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون والمستشار الألماني أولاف شولتس، لكن كييف قالت إنها تريد استخدام اتفاقها مع بريطانيا والموقع في يناير الماضي كإطار عمل. وقالت لندن إن هذا الاتفاق يضفي الطابع الرسمي على نطاق من دعم تقدمه وستستمر في تقديمه لأمن أوكرانيا. كما أسس التزامًا بإجراء مشاورات مع كييف في غضون 24 ساعة في حالة مواجهة أوكرانيا هجومًا مسلحًا روسيًا في المستقبل وتقديم مساعدة أمنية سريعة ومتواصلة.
(*) صياغة خطة لغزة بعد الحرب، وتعزيز مساعي إقامة الدولة الفلسطينية: اجتمع مسؤولون من دول عربية وأوروبية والولايات المتحدة في ميونيخ لمناقشة سبل صياغة خطة لما سيكون عليه الوضع في قطاع غزة بعد انتهاء الحرب، والطريق نحو إقامة دولة فلسطينية. فهذا الاجتماع هو الأول من نوعه منذ أن شنت حركة حماس هجومها على إسرائيل في السابع من أكتوبر الماضي.
وقال مسؤول أمريكي رفيع المستوى إن الاجتماع هدف إلى مشاركة نتائج المناقشات التي أجرتها الولايات المتحدة والدول الأوروبية والعربية بخصوص غزة بعد الحرب، وزيادة اندماج إسرائيل في المنطقة والضمانات الأمنية والطريق نحو إقامة دولة فلسطينية وسبل إصلاح السلطة الفلسطينية. ودب خلاف بين الدول الغربية والعربية بخصوص الصراع الإسرائيلي الفلسطيني ودعا معظم هذه الدول إلى محاولة تخفيف الوضع الإنساني في قطاع غزة. لكن مع تزايد عدد القتلى في صفوف المدنيين، يقول مسؤولون إن هناك ضرورة ملحة لمناقشة موعد التوصل لوقف طويل لإطلاق النار.
الجدير بالذكر هنا المقال الذي نُشر في صحيفة "الجارديان" البريطانية، الذي تضمن أن قادة الدول الغربية يحدوهم الأمل أن تتمكن الاجتماعات المنعقدة على هامش أعمال مؤتمر ميونخ للأمن في إقناع إسرائيل بالتوقف عن اجتياح مدينة رفح في قطاع غزة، التي تمثل الملاذ الأخير لسكان القطاع الذين فروا من ويلات القصف الإسرائيلي الشرس الذي بدأ منذ السابع من أكتوبر الماضي.
وأوضح كاتب المقال باتريك وينتور، أن قادة الدول الغربية يأملون أن اللقاءات التي يعقدها وزراء خارجية العديد من دول العالم مع الجانب الإسرائيلي على هامش مؤتمر ميونخ للأمن بألمانيا قد تشكل ضغوطًا متزايدة على إسرائيل من أجل إقناعها بالتوقف عن مخطط اجتياح مدينة رفح في جنوب قطاع غزة. ويلفت المقال إلى أن الضغوط على الجانب الإسرائيلي من أجل منعها من اجتياح رفح تتزايد على مستوى العالم من جميع الأطراف بما فيها أكبر حلفاء إسرائيل مثل الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا وكندا وأستراليا ونيوزيلندا.
عقبات مستعصية:
هناك عدد من العقبات التي تواجه المجتمعين في مؤتمر ميونخ للتعامل مع الصراعات والنزاعات الدولية. ويمكن تحديد هذه العقبات فيما يلي:
(*) الموقف الأمريكي إزاء الصراعات الحالية: تتعنت الولايات المتحدة الأمريكية وتصر على الاستمرار في الاستثمار في هذه الصراعات - الحرب على غزة والحرب في أوكرانيا - من أجل الحفاظ على هيمنتها العالمية، حتى ولو على حساب حلفائها من الأوروبيين، وهو ما جعل إسرائيل تضرب بالقوانين الدولية عرض الحائط ولا تُبالي برأي المجتمع الدولي بشأن ضرورة وقف إطلاق النار في غزة.
ومن جهة أخرى، هناك تخوف كبير من اتساع دائرة الحرب في الشرق الأوسط خاصة بعد تفاقم الأوضاع بالبحر الأحمر وتضرر الملاحة البحرية في باب المندب وتعرض التجارة الدولية خاصة لأوروبا لأضرار بالغة، وتعدد جبهات الحرب في ظل إصرار إسرائيل على سياستها التي تعرض الشعب الفلسطيني إلى إبادة جماعية.
(*) التبعية الأوروبية للولايات المتحدة الأمريكية أمنيًا: إذ تُجسد هذه التبعية تخبط الأوروبيين واهتزاز مواقفهم بشأن حرب أوكرانيا، حيث الحيرة في الدوران في فلك التبعية المطلقة للولايات المتحدة وفي السعي نحو محاولات بطيئة وهادئة للتخلص من هذه التبعية، لذلك تصاعدت المطالب والأصوات الأوروبية في مؤتمر ميونخ في دورته الحالية بضرورة تعزيز قدرات أوروبا العسكرية والدفاع عن مصالحها بعيدًا عن رغبة وموقف الولايات المتحدة.
لذلك يعمل القادة الأوربيون في هذا المؤتمر على إقناع الولايات المتحدة بالاستمرار في التزامها بتعهداتها تجاه الغرب لأن هناك تزايدًا في الهاجس الأمني الأوروبي - ألمانيًا تحديدًا- مع اقتراب نهاية عهد جو بايدن واحتمال عودة الرئيس السابق دونالد ترامب، خاصة أن الولايات المتحدة تضمن أمن ألمانيا منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، وتنشر صواريخ نووية في قواعد سرية بالبلاد، لكن تهديدات ترامب في الأيام الماضية بأنه سيشجع الرئيس الروسي على الهجوم على الدول التي لا تفي بالتزاماتها للناتو، ما أزعج ألمانيا وجعلها تبحث عن ضمان أمنها في غياب الولايات المتحدة.
(*) الإصرار الغربي على إضعاف روسيا الاتحادية: بات هناك إصرار غربي لا رجعة فيه على تقليم أظافر موسكو من خلال استمرار الضغط عليها وتقديم الدعم لكييف، وفي المقابل استمالة بكين عبر فتح قوات اتصال معها ومحاولة زحزحتها رويدًا بعيدًا عن الفلك الروسي لإضعافه.
وأعلن رئيس المؤتمر استبعاد عدد من زعماء دول وأحزاب سياسية ألمانية من المشاركة في المؤتمر، في إشارة إلى الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، الذي صرّح "بأنه سيكون سعيدًا للتفاوض، لكن ليس مع هذه الحكومة الأوكرانية"، في إشارة إلى إصراره على تغيير النظام الحاكم في كييف. كما جرى استبعاد حزب "تحالف سارة فاغنكنيشت" من قائمة المدعوين، وهو حزب يساري جديد في الساحة السياسية الألمانية، يتبنى موقفًا يوصف بالمحابي لروسيا.
وفي النهاية، يمكن القول إن مؤتمر ميونخ للأمن اتجه في نسخته الحالية إلى إعادة ترتيب التهديدات والمخاطر العالمية؛ فقد جاءت الهجرة، وظاهرة تغير المناخ في الترتيبين الأول والثاني بين تهديدات الأمن العالمي فيما جاءت روسيا ثالثة في الترتيب. وهو ترتيب مغاير لترتيب المخاطر والتهديدات الدولية للنسخة الماضية من تقرير ميونيخ للأمن، إذ تم تصنيف الحرب الروسية على أوكرانيا على أنها أكبر تهديد للأمن خاصة في بلدان مجموعة السبع، وفقًا لاستطلاع "مؤشر ميونخ للأمن"، الذي نُشر قبل مؤتمر العام الماضي، وهو ما قد يشير إلى تراجع خطر الحرب الروسية كتهديد عالمي في الوقت الراهن على حساب تصاعد تهديدات وأخطار كونية أخرى "الهجرة، وتغير المناخ". وستكشف قادم الأيام عن مدى فعالية دور هذا المؤتمر في التغلب على التهديدات الدولية وإنهاء الصراعات والنزاعات الحالية حول العالم، والتيمن شأن استمرارها تهديد البشرية كلها.