قبل يوم واحد فقط من بدء الحملات الانتخابية في 3 فبراير 2024، أعلن الرئيس ماكي سال تأجيل التصويت في الانتخابات الرئاسية السنغالية، وصوَّتَ البرلمان في 5 فبراير 2024 لصالح تأجيل الانتخابات إلى 15 ديسمبر 2024، ما أدى إلى تأخير التصويت بنحو 10 أشهر عن الموعد المُقرر مسبقًا في 25 فبراير الجاري.
وأحدث القرار قلقًا لدى السنغاليين، حتى بدأت أعمال شغب واحتجاجات في دكار، التي عُرِفَت منذ زمن بعيد أنها تشهد انتقالًا سلميًا للسلطة منذ حصولها على الاستقلال عن فرنسا عام 1960، وأعلن المجلس الدستوي في 15 فبراير الجاري بطلان قرار إرجاء الانتخابات، وعدم دستورية القانون الذي أقرته الجمعية الوطنية بمدّ ولاية الرئيس الحالي 10 أشهر، حتى إجراء الانتخابات منتصف ديسمبر 2024.
إن تأجيل الانتخابات الرئاسية هو الحدث الأول من نوعه في السنغال، باعتبار أن "دكار" لم تشهد اضطرابات أو حروبًا أهلية أو انقلابات عسكرية منذ عقود طويلة بخلاف دول الجوار في المنطقة، فقرار التأجيل نتج عنه ضجة كبيرة من قِبَل المدنيين، فخرج المتظاهرون للشوارع واستخدمت الشرطة الغاز المسيل للدموع ضدهم، وتم قطع الإنترنت لمدة 36 ساعة على الأقل، ووصف منتقدو القرار الوضع بأنه "انقلاب مؤسسي" وامتداد غير شرعي لولاية الرئيس ماكي سال، الذي يتولى السلطة منذ عام 2012. فالأحداث الجارية عقب إرجاء الانتخابات الرئاسية، تحمل عواقب سياسية هائلة، ليس على السنغال فحسب بل على القارة السمراء برمتها.
تأسيسًا على ماسبق، يسعى التحليل للإجابة على سؤال: ما انعكاسات إرجاء الانتخابات الرئاسية في السنغال؟.
مسوغات التأجيل
تعددت دواعي تأجيل الرئيس السنغالي ماكي سال الانتخابات الرئاسية من 25 فبراير الجاري إلى 15 ديسمبر 2024، ويمكن إرجاع القرار للأسباب التالية:
(*) الخلافات القائمة داخل الحزب الحاكم: تبين أن هناك عداء قائم بين الحزب الديمقراطي السنغالي والمرشح الرئاسي أمادو با، ومن ثم ازدادت المساعي من أجل الحيلولة دون ترشُح "أمادو با"، وتسببت تلك التوترات في تشكيل لجنة تحقيق في شروط المصادقة على الترشيحات للانتخابات الرئاسية، ويبدو أن هناك نشطاء ضد المرَشح "أمادو با"، دفع ذلك الرئيس سال إلى اتخاذ قرار تأجيل الانتخابات؛ نتيجة الانقسام الذي أصاب صفوف حزبه، ومن ثُم تفادى أية أخطاء محتملة خلال عملية التصويت، الأمر الذي يُحَفِز المعارضة على الصعود إلى السلطة وضمان شفافية ونزاهة الانتخابات، من خلال دعوة سال إلى ضرورة إجراء حوار وطني يهدف لحل تلك الخلافات، ويحتاج الأمر لمزيد من الوقت، وكان التأجيل هو القرار الذي يسمح لسال بمزيد من الوقت لاستتباب الأمور.
(*) معالجة قضايا استبعاد المرشحين: استبعد المجلس الدستوري عددًا من المرشحين للانتخابات الرئاسية المقبلة، وعلى رأسهم "كريم واد"، بسبب حصوله على جنسية أخرى (الفرنسية). ومن بين المرشحين الشعبيين الآخرين الذين تم استبعادهم هو "عثمان سونكو"، الذي يمكن القول إنه أكبر منافس للرئيس الحالي "ماكي سال"؛ وتم استبعاده بسبب سجنه بتهمة "إفساد القاصرين والتحريض على التمرد" في عام 2023، ولا يزال رهن الاحتجاز، فخطوة الاستبعاد أحدثت خللًا في قائمة المرشحين للانتخابات الرئاسية المقبلة، وقرر سال التأجيل؛ لمعالجة تلك التوترات.
(*) اندلاع الأزمة الدستورية: عقب رفض ملف ترشُح المُعارض "كريم واد" في الانتخابات الرئاسية المقبلة، تسبب في أزمة دستورية نتج عنها إجراء تحقيق من قِبَل البرلمان مع قاضيين بالمجلس الدستوري بشأن ملف المرشحين، وتم اتهامهما بتَلَقِي رشوة، واقترح الحزب الديمقراطي السنغالي تشكيل لجنة لهذا الأمر، وجرى تمريره بموافقة بعض نواب حزب التحالف من أجل الجمهورية الحاكم، ولذلك تسببت تلك الأزمة القائمة بين البرلمان والمجلس الدستوري فى إعلان سال عن تأجيل الانتخابات الرئاسية.
انعكاسات مُحتملة
إن قرار تأجيل الانتخابات الرئاسية في السنغال، له تداعيات واردة على الصعيدين الإقليمي والدولي، تتمثل أبرزها في:
(&) تقليص مدة التأجيل: مع ما يحدث في السنغال من معارضة على مقترح تأجيل الانتخابات الرئاسية إلى 10 أشهر مقبلة، من المُرَجَح التئام مختلف الأطراف السياسية والفاعلين داخل المجتمع السنغالي؛ من أجل النقاش حول الأجندة الانتخابية المستقبلية، واقتراح أجل آخر. ونلاحظ أن ما حدث داخل أروقة الجمعية الوطنية السنغالية هو التشاور بين أمرين، إما التأجيل 6 أشهر وإما 10 أشهر، لكن الغالبية العُظمى اتجهت إلى تأجيل الانتخابات لمدة 10 أشهر. فمع تطور الأحداث، من الممكن تقليص الفترة الزمنية للتأجيل إذا قرر مختلف الفرقاء في الحوار السياسي أن يتم اقتراح فترة أخرى مدتها 6 أشهر.
(&) زعزعة الاستقرار الأمني: مع إعلان المجلس الدستوري في السنغال في الـ16 من فبراير الجاري عدم شرعية تأجيل الانتخابات الرئاسية وإلغاء المرسوم الرئاسي الذي تم بموجبه تأجيل الانتخابات، من المُحتمَل استغلال المعارضة السياسية الأوضاع؛ من أجل الوصول إلى السلطة على الرغم من سعيهم إلى انعقاد الانتخابات الرئاسية في موعدها الأصلي والضغط الشعبي على الرئيس ماكي سال، من خلال دعوة الشعب للخروج في مظاهرات. فمع تفاقُم الأمور دون الوصول لتوافق حول خارطة طريق لاستعادة مسار الانتخابات، من المحتمل نشوء صدام بين القوى السياسية بالتزامن مع أعمال عنف قد يتحول إلى حالة اضطراب حقيقي يقود لانقلاب حقيقي لأول مرة في تاريخ البلاد منذ الاستقلال قبل عقود طويلة، ومن الممكن أن يتخذ المشهد منحنى آخر متمثلًا في سَعِي المعارضة لاستخدام أوراق ضغط على الحكومة؛ للإفراج عن بعض المعارضين السياسيين.
(&) أزمة داخلية في الحزب الحاكم: في ظل التوترات الداخلية التي تشهدها السنغال عقب الإعلان عن تأجيل الانتخابات الرئاسية، من المحتمل أن يشهد حزب الرئيس "ماكي سال" انقسامات داخلية، ومن ثُم إعادة تشكيل صفوفه. مع العلم بأن الفارق العددي هو نائب واحد فقط بين حزب "التحالف من أجل الديمقراطية" الحاكم والمعارضة في الجمعية الوطنية السنغالية البالغ عدد نوابها 165، وصادق على قرار تأجيل الانتخابات في السنغال قرابة 120 برلمانيًا. وفق تلك المعطيات الرقمية، يتضح أن هناك أعضاء من الحزب الحاكم يرفضون فكرة التأجيل، وقد عبروا صراحة عن ذلك أثناء الاجتماع.
(&) تقويض الديمقراطية السنغالية: تُعَد السنغال مهد الديمقراطيات في إفريقيا، وتُعرَف لعقود طويلة أنها نموذج يُحتذى به في منطقة غرب إفريقيا مع تصاعُد التوترات الجيوسياسية الناتجة عن التغيرات في أنظمة الحكم كما في النيجر وغيرها، فالاضطرابات التي تشهدها البلاد دستوريًا وسياسيًا، ستؤدى إلى تراجُع سُمعة السنغال في الديمقراطية على المستويين الدولي والإقليمي.
(&) مخاوف "إيكواس": إن الوضع في السنغال خاصًة مع الاحتجاجات التي أعقبت القرار الرئاسي بتأجيل الانتخابات الرئاسية، يجعل المجموعة الاقتصادية لدول غرب إفريقيا "إيكواس"، تشعر بالقلق من أن تصبح السنغال عاملًا آخر لزعزعة الاستقرار، وقد تفقد المنظمة بذلك دولة أخرى بعد الضربة القاضية التي تلقتها بسبب خروج مالي والنيجر وبوركينا فاسو في الـ 28 من يناير الماضي، وتعتبر السنغال دولة عضو مهمة للغاية في "إيكواس".
(&) تصاعُد النفوذ الأمريكي: في ظل ضبابية ردود الفعل الأوروبية بشأن الوضع في السنغال، تستغل الولايات المتحدة الأمريكية الفرصة وتضع القارة السمراء تحت منظارها. فمستوى التفاعل الأمريكي أقوى وأسرع مقارنة بالدول الأوروبية خاصة فرنسا، فالولايات المتحدة الأمريكية لا تسمح لنفسها بالبقاء خارج اللعبة؛ نظرًا لأن السنغال بمثابة الدولة التي تجتمع فيها مصالح أمريكا، لما تحتويه من ثروات نفطية هائلة، فاستقرار منطقة الساحل الإفريقي من أولويات الولايات المتحدة الأمريكية، وتدهور الأوضاع في السنغال ينذر بالخطر على الدولة ذاتها والمنطقة برمتها. فالمُلاحَظ أن استقرار السنغال هو المصلحة الأولى لنفوذ الولايات المتحدة الأمريكية.
إجمالًا لما سبق، يمكن القول إن إرجاء الانتخابات الرئاسية في السنغال، جعلها على مفترق طرق، ويبدو أن الاحتجاجات التي أعقبت القرار لم تكن تبشر بمستقبل الأزمة. لكن السنغال تتميز مؤسساتها بالقدرة على احتواء المواقف، فأزمة السنغال داخلية ولا بد أن تُحَل دون اللجوء إلى قوى أجنبية تجر البلاد إلى منعطف حَرِج. لذلك، فإن التعويل على توافق وطني لإعادة إطلاق مسار الانتخابات، سيكون هو الفيصل الذي يحسم الصراع الدائر بين المعارضة والحزب الحاكم، ومن ثم مصير انتخابات عام 2024 الرئاسية في السنغال.