تأتي جولة أنتوني بلينكن، وزير الخارجية الأمريكي، التي تُعد الخامسة له في الشرق الأوسط، منذ بدء عملية طوفان الأقصى، 7 أكتوبر 2023، لكل من مصر، السعودية، قطر، إسرائيل، والضفة الغربية، خلال الفترة من 4 إلى 8 فبراير الجاري، لتكتسب أهميتها في هذا التوقيت بعد تزايد رقعة الصراع وامتداده إلى مناطق متعددة من دول الإقليم، منها: تهديد الملاحة في البحر الأحمر بعد استهداف الحوثيين للناقلات البترولية والسفن التجارية، وفي لبنان بعد استهداف إسرائيل لمقرات حزب الله وقصف الحزب لمناطق على الحدود بين إسرائيل ولبنان، وفي العراق وسوريا من خلال استهداف تمركزات للقوات الأمريكية والرد الأمريكي على تلك الهجمات، التي كان أخطرها هجوم طائرة مُسيرة على قاعدة في الأردن قرب الحدود السورية، ما أسفر عن مقتل ثلاثة وجرح 40 جنديًا أمريكيًا، 28 يناير 2024.
لذلك تسعى الولايات المتحدة الأمريكية لخفض منسوب التوتر في دول الإقليم، حفاظًا على الاستقرار الإقليمي والدولي، من خلال السعي للتوصل إلى تهدئة ممتدة بين الفلسطينيين والإسرائيليين، لتبادل الأسرى والمحتجزين وصولًا لوقف إطلاق النار، وإنهاء الحرب رغم الدعم الأمريكي اللامحدود لإسرائيل برًا وبحرًا وجوًا.
أهداف متعددة:
تتنوع أهداف جولة بلينكن الشرق أوسطية الخامسة منذ عملية طوفان الأقصى، التي يمكن إبراز أهمها في التالي:
(*) التوصل إلى اتفاق هدنة إنسانية: وفقًا لماثيو ميلر، المتحدث باسم الخارجية الأمريكية، فإن جولة بلينكن ترتبط بمواصلة جهوده الدبلوماسية للتوصل إلى اتفاق يضمن إطلاق كل المحتجزين المتبقين، وتشمل هدنة إنسانية تسمح بإيصال مستدام ومتزايد للمساعدة الإنسانية إلى المدنيين في غزة، وهو ما أكدته السفيرة الأمريكية لدى الأمم المتحدة، بالقول "إننا نعمل مع العديد من الشركاء الإقليميين بشأن اقتراح جديد لإطلاق سراح الأسرى في غزة، وإذا تمت الموافقة على الاقتراح الجديد للهدنة فسنتمكن من الوصول لوقف مستدام للأعمال العدائية".
(*) الحد من توسيع الصراع: على الرغم من أن الولايات المتحدة الأمريكية سارعت بدعم إسرائيل برًا وبحرًا وجوًا عقب عملية طوفان الأقصى، إلا أنها أيضًا تعلن رغبتها في عدم اتساع رقعة الصراع وامتداده إلى مناطق أخرى من دول الإقليم، وهى الرغبة التي تتنافى مع السلوك الأمريكي على أرض الواقع، سواء من خلال إرسال غواصة نووية للمنطقة بهدف الردع الأمريكي للخصوم الإقليميين، لمنع اتساع الصراع أو من خلال انخراط الولايات المتحدة في تنفيذ عمليات عسكرية مشتركة ضد الحوثيين في اليمن، في إطار ما سُمي بتحالف حماية الازدهار في البحر الأحمر، لحماية الملاحة والتجارة الدولية، فضلًا عن تنفيذ عمليات عسكرية في سوريا والعراق، للرد على استهداف تمركزات للقوات الأمريكية، وهو الأمر الذي عبر عنه ماثيو ميلر، قبيل الجولة، بأن بلينكن سيواصل العمل للحيلولة دون توسيع النزاع، مع إعادة تأكيد أن الولايات المتحدة ستتخذ الإجراءات المناسبة للدفاع عن العاملين لديها وحق حرية الملاحة في البحر الأحمر.
(*) مناقشة مسألة حل الدولتين: تتبنى الولايات المتحدة مسألة حل الدولتين، وهو الحل الذي تتبناه غالبية دول العالم، ويرفضه بنيامين نتنياهو، رئيس وزراء إسرائيل، عندما أشار في تصريحات له إلى أنه أبلغ الإدارة الأمريكية رفضه حل الدولتين، وإذا كان المتحدث باسم الخارجية الأمريكية، أشار إلى أن بلينكن سيواصل النقاشات مع الشركاء حول كيفية إقامة منطقة أكثر تكاملًا وسلامًا تشمل أمنًا دائمًا لإسرائيل وفلسطين على حد سواء، فإن أحد الأهداف لتلك الجولة ربما ترتبط وفق اتجاهات عديدة بمناقشة الرؤية الأمريكية الداعمة لدولة فلسطينية منزوعة السلاح شريطة عدم تشكيلها أي تهديد على أمن إسرائيل، في ظل تنامي الدعوات الأمريكية الرافضة لأي تغيير في الوضع الجغرافي لقطاع غزة أو إعادة احتلاله من قبل إسرائيل.
(*) إدخال المساعدات الإنسانية لقطاع غزة: تمثل المساعدات الإنسانية أهمية حيوية لبقاء الفلسطينيين في غزة، ومع تعليق الولايات المتحدة الأمريكية وعدد من الدول الغربية تمويل وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (الأونروا) على خلفية اتهام عدد من موظفيها الفلسطينيين في المشاركة بعملية طوفان الأقصى، وهو الأمر الذي يُشكل تحديًا للبعد الإنساني في غزة، بما يتطلب إعادة طرح تلك القضية خلال مناقشات مسؤولي دول المنطقة مع بلينكن لا سيما العربية منها، لإعادة الولايات المتحدة الأمريكية النظر في ذلك القرار، خاصة أنها المانح الأكبر لتمويل "الأونروا"، وحتى لا تتأثر أنشطتها التي تقوم على توفير الخدمات الصحية والتعليمية والغذائية، في مخيمات اللاجئين وأماكن إيوائهم.
سيناريوهان محتملان:
هناك سيناريوهان محتملان لجولة بلينكن الخامسة في الإقليم يتوقف كل منهما على السياق الإقليمي والدولي وتطوراتهما، ومدى قدرة واشنطن على إقناع إسرائيل بوقف الحرب التي أضحت تهدد ليس فقط الأمن والاستقرار في الإقليم والعالم، بل تهدد بقاء الدولة الإسرائيلية ذاتها، وتقوض مرتكزات استمرارها بعد سقوط نظريات الردع التي اعتقد قادتها أنها قادرة على حمايتها وتحقيق الأمن. لذلك يمكن الإشارة إلى هذين السيناريوهين في التالي:
(-) السيناريو الأول استمرار التصعيد في الإقليم، يرتبط هذا السيناريو باحتمالية إخفاق جولة بلينكن في التوصل إلى تفاهمات تُسهم في وقف الحرب الإسرائيلية على غزة في ظل التعنت الإسرائيلي الذي جعل الحكومة الإسرائيلية الأكثر يمينيًة وتطرفًا، ترفض كل الجهود الرامية لوقف الحرب بما فيها الجهود الأمريكية ذاتها، التي تعاني تناقضًا واضحًا ما بين التوجهات المُعلنة والسلوك على أرض الواقع، ابتداء من إرسال سفن حربية وحاملات طائرات إلى البحر الأبيض المتوسط، لدعم إسرائيل وإقرار حزمة من المساعدات الاستثنائية تقدر بـ14 مليار دولار، مرورًا بالضربات الجوية المتعددة على الحوثيين في اليمن، وعلى قواعد خصومها بالعراق وسوريا وصولًا إلى إعلان تحالف دولي سُمي بـ"حارس الازدهار"، لحماية حرية الملاحة في البحر الأحمر، لذلك تسعى واشنطن لإرسال رسالة للقوى الكبرى الطامحة لتغيير قواعد النظام الدولي القائم بأنها لا زالت القوى الأكبر القادرة على ضبط تفاعلات الإقليم، سواء من خلال أداتها العسكرية عبر تصعيد عملياتها داخل دول الإقليم، وفي المناطق المضطربة منه، أو توظيف أدواتها الدبلوماسية من خلال منع صدور أي قرار من مجلس الأمن لوقف الحرب أو إدانة اسرائيل، مع قدرتها على تنشيط وبلورة المبادرات الكفيلة بإدارة الصراع الفلسطيني الإسرائيلي والاتجاه نحو تسويته.
(-) السيناريو الثاني التهدئة ويقوم هذا السيناريو على نجاح جولة بلينكن في تحقيق أهدافها المعلنة، منها التوصل إلى هدنة لإطلاق سراح المحتجزين قد تتحول معها الهدنة إلى وقف لإطلاق النار، ويعزز من نجاح ذلك السيناريو أن الرغبة الأمريكية في إعادة طرح مسألة حل الدولتين ربما ترتبط في أحد جوانبها بالانتخابات الرئاسية الأمريكية التي ستجرى في نوفمبر 2024، إذ يسعى الرئيس الأمريكي جو بايدن للحصول على ولاية رئاسية ثانية، بعد تزايد فرص ترامب في خوض تلك الانتخابات عن الحزب الجمهوري، بعد إعلان ديسانتيس مغادرته للسباق الرئاسي لنيل ثقة الحزب الجمهوري واتجاهه نحو دعم دونالد ترامب، ما يصعب من المنافسة الانتخابية بين بايدن وترامب.
مجمل القول إن جولة بلينكن الخامسة للمنطقة منذ عملية طوفان الأقصى تتزامن مع ما طرحه توماس فريدمان في عموده بجريدة "نيويورك تايمز" الأمريكية، 2 فبراير 2024، حول عقيدة بايدن، التي طرح خلالها قيام إدارته بإعداد استراتيجية جديدة للتعامل مع الحروب والمواجهات الأمريكية في الشرق الأوسط تقوم على ثلاثة خطوط متوازية: أولها اتخاذ موقف حاسم ضد إيران، ثانيها، التقدم بمبادرة غير مسبوقة للاعتراف بدولة فلسطينية منزوعة السلاح في الضفة وقطاع غزة بعد قيام مؤسسات فلسطينية وقدرات أمنية بحيث تكون الدولة قابلة للحياة ولا تهدد أمن إسرائيل، وثالثها إقامة تحالف أمني واسع النطاق بين الفلسطينيين وإسرائيل والولايات المتحدة والسعودية. فهل تنجح جولة بلينكن في ترجمة مذهب بايدن أم أن الواقع في الإقليم والعالم وتفاعلاتهما أكثر تعقيدًا من الأطروحات النظرية؟.