خلال سنوات من النضال المشروع، قاوم الشعب الفلسطيني، الاحتلال الإسرائيلي بالأسلحة النارية، والحجارة، كما لجأ إلى أي وسيلة تساعد في طرد الاحتلال الذي سعى إلى إقامة كيان غريب على أرض عربية، وفي ظل ما يعانيه الفلسطينيون من جرائم القتل الممنهج، الذي يهدف إلى اقتلاع الشعب الفلسطيني من جذوره، من أجل ضمان بقاء الكيان المحتل، الذي جاء من الشتات، لجأ الفلسطينيون إلى المقاومة بطريقة أخرى، تختلف عن المقاومة بالسلاح، وهي "المقاومة بالإنجاب".
ورغم تردي الظروف الاقتصادية والاجتماعية، أصر الفلسطينيون، وبخاصة في قطاع غزة، على المقاومة بإنجاب الكثير من الأطفال، وذلك من أجل مواجهة قلة عدد السكان، جراء الحروب التي أوقعت آلاف الشهداء من الفلسطينيين، ناهيك عن عشرات القتلى التي تسقطهم نيران قوات الاحتلال يوميًا، ويتضح ذلك في تعداد السكان الذي يظهر ارتفاع الكثافة السكانية في فلسطين بشكل عام و في القطاع المُحاصر بشكل خاص، وذلك بحسب الدكتور رائد صالحة، أستاذ الجغرافيا البشرية بالجامعة الإسلامية في قطاع غزة.
احتلال فلسطين وتغير الديموغرافية
وفي هذا الشأن، أوضح الدكتور رائد صالحة، أن هجرة اليهود إلى الأراضي المحتلة أحدثت تغيرات هيكلية في سكان فلسطين، فبعد أن كان اليهود يشكلون قبل عام 1918 أقل من 8 في المئة أصبحوا 88 في المئة عام 1965، إلا أن الميزان الديموغرافي في السنوات الأخيرة تغير لصالح الفلسطينيين، إذ أصبح الإسرائيليون يشكلون بعد عام 1948 نحو 54 في المئة من السكان، مقابل 46 في المئة للفلسطينيين، وبالرغم من استمرار تدفق هجرة اليهود إلى فلسطين، إلا أن نسبة الفلسطينيين بلغت نحو 50% العام الجاري (2022).
التفوق الديموغرافي لصالح الفلسطينيين
وأكد "صالحة" أن التفوق الديموغرافي للفلسطينيين يُقلق المنظومة الإسرائيلية، و يعد لب الصراع مع الاحتلال، بالإضافة إلى أسباب أخرى تتعلق بالثقافة الإنجابية الفلسطينية والعربية، التي تحافظ على معدل عالٍ من الإنجاب، مقابل الثقافة الإنجابية اليهودية الغربية التي تتسم بمعدل إنجاب منخفض.
وأوضح أستاذ الجغرافية البشرية، أن ما يلفت الانتباه هو العامل الديومغرافي، والتعداد السكاني لليهود في إسرائيل، مقابل نسبة الفلسطينيين العرب في الداخل (عرب 48)، وتعد تلك القضية، إحدى أهم القضايا التي تؤرق المؤسسة الإسرائيلية، وخصوصاً في ظل استمرار ارتفاع أعداد الفلسطينيين إلى درجة تهديد الميزان الديموغرافي للكيان الإسرائيلي، الذي يخشى فقدان الأغلبية اليهودية.
قلق إسرائيلي من التفوق الديموغرافي للفلسطينيين
وأفاد "صالحة" بأن تصريحات الساسة الإسرائيليين تُبين مدى القلق الذي يعانون منه، نتيجة للنقص في أعداد المهاجرين اليهود، وتحول الميزان السكاني لصالح الفلسطينيين، فعلى سبيل المثال انتقد رئيس الكيان الأسبق حاييم هيرتزوج، اليهود الأمريكيين الذين يفضلون العيش بسلام في بلادهم، أما رئيس وزراء إسرائيل الأسبق إسحق شامير، فطالب الولايات المتحدة بألا تعطي تأشيرات دخول لليهود القادمين من الاتحاد السوفيتي السابق، في حين طالب الرئيس الأسبق شيمون بيريز، الاتحاد السوفيتي بألا يسمح لليهود بمغادرته إلا لفلسطين، مشيرًا إلى مؤتمر "هرتسيليا" الذي عقد يوم الخميس 18/12/2003، وناقش لائحة من التحديات الخطيرة والمصيرية بالنسبة لدولة إسرائيل، وكان على جدول الأعمال "مناقشة أعداد فلسطينيي الداخل (عرب 48)".
جوهر الصراع
يسعى الاحتلال الإسرائيلي منذ سيطرته على القدس عام 1967م إلى خلق أغلبية يهودية في المدينة عبر سلسلة من السياسات والإجراءات الرامية لذلك، بدءًا من المشاريع الاستيطانية، وجدار الفصل العنصري، بالإضافة إلى السيطرة الكاملة على المنطقة (ج) والتي تشكل ما يزيد عن 60 في المئة من مساحة الضفة الغربية، ولم يجر وضع الفلسطينيين في الحسبان إلا بنسبة لا تتجاوز 1في المئة.
وفي هذا الصدد، يرى صالحة أن الامتداد العمراني الفلسطيني يصطدم بسياسة الاستعمار المتسارعة، التي يمارسها الاحتلال في الضفة الغربية، ما أدى إلى تفاقم أزمة السكن في مدينة القدس ومحيطها، مؤكدًا أن الأوضاع (الجيوسياسية) في فلسطين بشكل عام، والقدس بشكل خاص، معقدة وصعبة وتتطلب مبادرات واستراتيجيات ذكية وعقلانية من قبل الفلسطينيين والعرب، لمواجهة التحديات من خلال الضغوط السياسية على الاحتلال لوقف إجراءاته، والعمل على تعزيز صمود الفلسطينيين من خلال المحافظة على تفوقهم الديموغرافي وحل المشكلات المختلفة التي تواجههم.
قطاع غزة.. كثافة عالية ومستقبل غامض
بلغ عد سكان قطاع غزة سنة 2020 حوالي 2.2 مليون نسمة، وتبلغ مساحة القطاع 360 كيلومترًا مربعًا، وتعد الكثافة السكانية في القطاع من أعلى الكثافات في العالم إذ بلغت حوالي 6000نسمة / كم2، ويتوقع "صالحة" أن يصل عدد سكان القطاع سنة 2038 نحو 4 ملايين تقريبًا، وبالتالي ستكون الكثافة السكانية نحو 11.500نسمة /كم2.
ونتيجة لزيادة عدد السكان ومحدودية الأرض والانفصال الجغرافي بين الضفة الغربية وقطاع غزة، فالقطاع يعاني من أزمات عديدة منها: مشكلة السكن، ونقص وملوحة وتلوث المياه، وفقدان الأراضي الزراعية لحساب الكتلة المبنية، ناهيك عن المشكلات الاقتصادية وارتفاع معدلات البطالة والفقر التي تصل إلى 60 في المئة. بالإضافة إلى عدد من المشكلات البيئية.
الأمر الواقع
يرى "صالحة" أن الميزان الديموغرافي مستقبلًا سيكون في صالح الفلسطينيين، وهذا يعزز الوجود العربي الفلسطيني وصموده، ونجاحه في الإبقاء على الهُوية العربية الفلسطينية، ورغم التحديات والصعوبات التي تواجه الفلسطينيين في الضفة الغربية المحتلة والقطاع، إلا أن الزيادة السكانية الفلسطينية سوف تغير المفاهيم الدولية والإسرائيلية وتجعلها تخضع للأمر الواقع.