جاء انعقاد الدورة السادسة لمنتدى التعاون العربي الروسي على مستوى وزراء الخارجية في 20 ديسمبر 2023 بمدينة مراكش المغربية، ليمثل ترجمًة للتعاون الاستراتيجي العربي الروسي، وسعيًا لتحقيق الأهداف المُشتركة، سواءً فيما يتعلق بالمقاربة الروسية للأزمات العربية، والتي تقوم على تسويتها من خلال الوسائل السلمية والحوار الشامل أو ما يتعلق بالموقف الروسي المساند لحقوق الشعب الفلسطيني في إقامة دولته المستقلة وعاصمتها القدس الشرقية. وهو ما تجلى في التعامل الروسي مع العدوان الإسرائيلي على غزة من خلال العضوية الدائمة بمجلس الأمن الدولي، وتبني القرارات الداعمة لوقف إطلاق النار، وإدانة استهداف المدنيين والنساء والأطفال، والدعوة لدخول المساعدات الإنسانية، ورفض وإدانة التهجير القسري للفلسطينيين داخليًا أو خارجيًا.
دوافع مُتعددة
هناك العديد من الدوافع التي أسهمت في انعقاد الدورة السادسة لمنتدى التعاون العربي الروسي 2023، والتي يُمكن إبراز أهمها في العناصر التالية:
(*) الحفاظ على دورية الانعقاد: يُشكل منتدى التعاون العربي الروسي إحدى آليات التعاون بين الجانبين، حيث عقدت الدورة الخامسة للمنتدى في 16 أبريل 2019 بمدينة موسكو، والذي اعتمد خطة العمل 2019-2021 والتي هدفت لتنفيذ مبادئ وأهداف المنتدى التي تقوم على أهمية الحوار والتعاون بين الجانبين، وأهمية تضافر جهود جميع الدول؛ من أجل تعزيز الاستقرار العالمي بجميع جوانبه كأساس للسلام الدائم القائم على مبدأ الأمن المتساوي وغير المنقوص للجميع، وضرورة الاحترام الكامل لسيادة الدول واستقلالها وسلامة أراضيها وعدم التدخل في الشؤون الداخلية، وإقامة علاقات حسن الجوار، واحترام الاتفاقيات والالتزامات المعقودة بين الدول؛ لذلك يأتي انعقاد الدور السادسة للمنتدى للحفاظ على دورية انعقاده لاسيما أن الدول العربية ترتبط بشراكات استراتيجية مع روسيا في مختلف المجالات السياسية والاقتصادية والثقافية.
(*) الدوافع العربية: تسعى الدول العربية لتنويع روابطها مع القوى الكبرى لاسيما تلك الساعية لاستعادة مكانتها على مسرح السياسة الدولية، وفى مقدمتها روسيا، لذلك يسعي الجانبان لتعزيز الحوار السياسي الذي يهدف إلى تنسيق المواقف المشتركة في المحافل الدولية، في إطار احترام مبادئ القانون الدولي والشرعية الدولية، ومقاصد ميثاق الأمم المتحدة والدور المحوري للأمم المتحدة، وخاصًة مجلس الأمن لحل النزاعات والحفاظ على السلم والأمن الإقليمي والدولي. واتساقًا مع تلك الأهداف جاء السلوك الروسي داخل أروقة الأمم المتحدة داعمًا لموقف الدول العربية، من خلال التصويت لصالح القرارين اللذين اتخذتهما بشأن العدوان الإسرائيلي على غزة. كما تقدمت روسيا بمشروعات قرارات وساندت مشروعات مماثلة داخل مجلس الأمن تطالب بالوقف الفوري لإطلاق النار، وإدخال المساعدات الإنسانية لقطاع غزة، حيث يعتبر الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، أن الحرب بين الفلسطينيين والإسرائيليين مثال واضح على فشل السياسة الأمريكية في الشرق الأوسط، وأنه من الضروري تنفيذ قرارات مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة المتعلقة بإقامة دولة فلسطينية مستقلة وذات سيادة.
(*) الدوافع الروسية: تهدف روسيا لتعزيز شراكتها الاستراتيجية مع الدول العربية؛ لتحقيق نوع من التوازن في تفاعلات النظام الدولي، والرغبة في الانتقال من النظام الأُحادي القطبية الذي تهيمن الولايات المتحدة على مجمل تفاعلاته، إلى نظام متعدد الأقطاب يعترف بالقوى الكبرى ومصالحها الاستراتيجية وفي مقدمتها روسيا والصين. لذلك تتبني روسيا ما جاء في خطاب الأمين العام للأمم المتحدة، أنطونيو جوتيريش، في 19 سبتمبر 2023 بشأن التحولات الدولية والحاجة إلى نظام دولي مُتعدد الأطراف والأقطاب الدولية، واحترام قواعد القانون الدولي، وأهمية بلورة مقاربات جديدة، بما يعزز فعالية المؤسسات الدولية، ويؤكد على تحقيق العدالة والتوازن وإنهاء ازدواجية المعايير والانتقائية.
قضايا متنوعة
تنوعت القضايا التي طرحت على أجندة المنتدى العربي الروسي في نسخته السادسة، ولاقت اهتمامًا مُشتركًا من الجانبين، والتي يمكن إبراز أهمها في التالي:
(*) التسوية السلمية للأزمات العربية: ناقش الوزراء خلال فعاليات المنتدى آخر التطورات في منطقة الشرق الأوسط، وتبنى الجانبان الدعوة لحلول سلمية للأزمات العربية، فبالنسبة لسوريا طالب الجانبان بالالتزام بالحفاظ على سيادة سوريا ووحدتها واستقرارها وسلامة أراضيها، وتأكيد أهمية الدور العربي الروسي في دعم الجهود المبذولة لتسوية الأزمة السورية ومعالجة تبعاتها السياسية والأمنية والإنسانية، وكذلك التطلع لاستئناف العمل في المسار الدستوري السوري. وعن الأزمة اللبنانية جاء التأكيد على ضرورة الإسراع في انتخاب رئيس الجمهورية وتشكيل حكومة كاملة الصلاحية في أقرب وقت ممكن، للخروج من الأزمة الاقتصادية والمالية الحالية، ودعم تنفيذ قرار مجلس الأمن 1701 والمطالبة بوقف انتهاك إسرائيل للمجال الجوي اللبناني، وغيرها من الأفعال الخطيرة والعدوانية التي تهدد الاستقرار الإقليمي. أما الأزمة الليبية فقد تم التأكيد على دعم الجهود الرامية، لعقد الانتخابات الليبية الرئاسية والبرلمانية بصورة مُتزامنة في أقرب فرصة ممكنة، بما يلبى تطلعات الشعب الليبي في تحقيق الأمن والاستقرار. وفيما يخص اليمن جاء التأكيد على التمسك بخيار السلام على أساس المرجعيات الثلاث المتفق عليها: المبادرة الخليجية، وآلياتها التنفيذية، ومخرجات مؤتمر الحوار الوطني الشامل، وقرار مجلس الأمن رقم 2216 لعام 2015 والقرارات الدولية ذات الصلة. وعن السودان تبنى الجانبان دعم جهود إطلاق حوار سوداني بقيادة سودانية يحترم السيادة السودانية، وإدانة الجرائم المرتكبة والانتهاكات الإنسانية في دارفور وربوع السودان.
(*) الحفاظ على الملاحة البحرية وإمدادات الطاقة: يمثل الحفاظ على الملاحة البحرية وإمدادات الطاقة أحد مجالات الاهتمام العربي والروسي، حيث طالب الجانبان في البيان الختامي الصادر عن فعاليات الحوار بتأكيد مبدأ حرية الملاحة البحرية في المياه الدولية، وفقًا لقواعد القانون الدولي واتفاقيات قانون البحار، وضرورة ضمان أمن وسلامة الملاحة البحرية في الخليج العربي وبحر عُمان والبحر الأحمر ومضيق هرمز وباب المندب، وتأمين خطوط إمدادات الطاقة، ورفض وإدانة الأعمال التي تستهدف أمن وسلامة الملاحة والمنشآت البحرية وإمدادات الطاقة وأنابيب النفط والمنشآت النفطية في الخليج العربي، والممرات المائية الأخرى، وتعزيز التعاون في تأمين السلامة البيئية لهذه المنطقة.
(*) التعاون بين الدول المتشاركة في الأنهار: شكل التعاون بين الدول المشاركة في الأنهار إحدى القضايا التي لاقت اهتمام الجانبين العربي والروسي، وذلك من خلال التأكيد على أهمية الحفاظ على الأمن المائي لجميع الدول العربية، وكذلك التأكيد على رفض أي عمل أو إجراء يمس بحقوقها المائية، لاسيما تلك التي تعاني من مشاكل ندرة المياه، وضرورة إيفاء جميع الدول، التي تتقاسم الأنهار، بالتزاماتها المنصوص عليها في الأطر القانونية الملزمة بموجب الاتفاقات وقواعد القانون الدولي المعمول بها في هذا الشأن، وتأكيد دعوة الدول المتشاركة إلى الانخراط في الحوار والتشاور، والتفاوض بحسن نية لتسوية الخلافات، والتوصل إلى اتفاقيات وتفاهمات عادلة ومتوازنة وملزمة تحفظ حقوق جميع الأطراف، وفقًا للقانون الدولي، وتحقيق المنفعة المتبادلة، والامتناع عن اتخاذ إجراءات أُحادية من شأنها تقويض تلك المفاوضات أو تهديدها.
(*) حل القضية الفلسطينية: استحوذت القضية الفلسطينية على الاهتمام الأكبر من حوار المنتدى العربي الروسي، لاسيما ما يخص العدوان الإسرائيلي على غزة، وتجسد ذلك الاهتمام فيما تضمنه البيان الختامي للحوار من قضايا متعددة ترتبط بالقضية الفلسطينية والعدوان الإسرائيلي على غزة تحديدًا. حيث تبنى المنتدى الإدانة الشديدة للحرب العدوانية الاسرائيلية المستمرة والمتصاعدة على الشعب الفلسطيني في قطاع غزة، والذي يستهدف المدنيين وتدمير الأحياء السكنية والمستشفيات والمدارس والمساجد والكنائس والبنى التحتية ومرافق الأمم المتحدة، فضلًا عن جميع الأعمال الإسرائيلية التي تستهدف إخضاع الشعب الفلسطيني في قطاع غزة لحصار شمل كل أسباب الحياة، وهو ما يشكل انتهاكات جسيمة بموجب القانون الدولي الإنساني، ورفض أي تبرير لهذه الحرب بما في ذلك بوصفها دفاعًا عن النفس، والتحذير من خطورة نوايا إسرائيل، باعتبارها القوة القائمة بالاحتلال، بارتكاب التهجير القسري للشعب الفلسطيني خارج الأرض الفلسطينية المحتلة، وإدانة سياسة الاستيطان الإسرائيلي غير القانوني، وعُنف المستوطنين الإسرائيليين بحق المواطنين الفلسطينيين. كما دعا الجانبان الروسي والعربي إلى تنفيذ قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة بالوقف الفوري لإطلاق النار، ورفع الحصار الإسرائيلي عن المدن والقرى والمخيمات الفلسطينية، وضرورة متابعة مساءلة إسرائيل عن الانتهاكات الجسيمة لحقوق الشعب الفلسطيني. وسعيًا لتقديم حلول ناجزة للأزمة تبنى الجانبان عقد مؤتمر دولي للسلام، على أساس قرارات الشرعية الدولية، ومبدأ الأرض مقابل السلام، ودعم كل ما تتخذه مصر من خطوات، لمواجهة تبعات الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة، وخاصة جهودها لإدخال المساعدات إلى القطاع، وإسناد موقفها الرافض لتهجير الشعب الفلسطيني بأي صورة كانت، ودعم الدور التاريخي لمصر في تحقيق المصالحة الفلسطينية.
مجمل القول يشكل انعقاد المنتدى العربي الروسي في دورته السادسة؛ سعيًا من الجانبين لتوظيف علاقاتهما في خدمة المصالح المشتركة التي تعزز من مسار التعاون في ظل تنوع تلك المصالح، والتي ترتبط بالأساس بالحفاظ على توازن القوى الدولي في منطقة الشرق الأوسط؛ بهدف التوصل لصيغ مناسبة لتسوية الأزمات المعقدة والمتداخلة إقليميًا ودوليًا في سوريا والسودان وليبيا واليمن، بما يحفظ وحدة تلك الدول وسيادتها وسلامتها الإقليمية، وكذلك متابعة تطورات الأزمة الفلسطينية التي استحوذت على الجانب الأكبر من البيان المشترك الصادر عقب انتهاء فعاليات المنتدى. وهو ما يعني أنها لا تزال قضية العرب الأولى، وأن روسيا تهتم بحلحلة الصراع في ظل عضويتها في الرباعية الدولية المعنية بالشرق الأوسط إلى جانب الولايات المتحدة الأمريكية، والاتحاد الأوروبي، والأمم المتحدة، من خلال موقفها المحايد في ظل الانحياز الأمريكي والأوروبي للموقف الإسرائيلي.