تعتبر مجموعة العشرين - التي تأسست عام 1999 - منتدى رئيسيًا للتعاون الاقتصادي، وتلعب دورًا استراتيجيًا في تعزيز النمو الاقتصادي العالمي والازدهار المستقبلي كونها تضم قادة أكبر الدول الاقتصادية في العالم، وتشكل البلدان الأعضاء فيها أكثر من 80% من إجمالي الناتج المحلي العالمي و75% من التجارة الدولية، كما يعيش في دول المجموعة نحو 60% من سكان العالم. فهذه المجموعة، هي المحفل الأهم والأكثر تأثيرًا على المستوى العالمي في مناقشة القضايا الاقتصادية والمالية الدولية، التي يحضرها ممثلو المؤسسات المالية العالمية الكبرى، مثل: صندوق النقد والبنك الدوليين، منظمة التعاون والتنمية الاقتصادية، مؤسسة الأمم المتحدة، والاتحاد الأوروبي وغيرها.
تنعقد القمة الـ18 لرؤساء دول وحكومات مجموعة العشرين بنيودلهي، 9 أكتوبر المقبل، تتويجًا وحصادًا لجميع عمليات واجتماعات مجموعة العشرين، التي عُقدت على مدار العام بين الوزراء وكبار المسؤولين والمجتمعات المدنية. وتتجلى أهمية هذه الاجتماعات في أن إعلان قادة مجموعة العشرين في ختام قمة نيودلهي، سينص على التزام القادة بالأولويات التي تمت مناقشتها والاتفاق عليها خلال الاجتماعات الوزارية واجتماعات مجموعات العمل المعنية التي شاركت فيها مصر بعد دعوتها للمشاركة في قمة مجموعة العشرين كـ"ضيف".
وبصفة عامة، تدور هذه الاجتماعات حول محورين أساسين، أحدهما يتعلق بالإطار السياسي، والآخر يتصل بالإطار الاقتصادي والمالي، إذ تبحث أوضاع الاقتصاد العالمي، وأهم التحديات القائمة، وسبل التعامل معها والهيكل المالي العالمي ومقترحات تطويره، وتعزيز حجم وأدوات التمويل المستدام، إضافة إلى جهود الشمول المالي وأهم القضايا المرتبطة به، والتعاون والتنسيق بشأن موضوعات الضرائب الدولية وتطور أوضاع الصحة العالمية.
يذكر أن الهند تترأس مجموعة العشرين لمدة عام، بدأ 1 ديسمبر 2022، ويستمر حتى 30 نوفمبر 2023، وخلال تلك الفترة احتضنت الأراضي الهندية أكثر من 200 اجتماع للدول الـ19 الأعضاء بالإضافة للاتحاد الأوروبي في المجموعة.
وفي هذا السياق، يسعى هذا التحليل إلى الإجابة عن عدة تساؤلات، هي: ما مضمون القضايا والموضوعات التي تمت مناقشتها في أثناء الاجتماعات التحضيرية لمجوعة الـ20 خلال عام؟، وما هو الموقف المصري إزاء هذه القضايا والموضوعات؟
تشابكات مستمرة:
ناقش وزراء عمل مجموعة العشرين أحدث اتجاهات التوظيف العالمية، استنادًا إلى تقرير مراقب منظمة العمل الدولية، والتطورات والآفاق الأخيرة لسوق العمل، مع التركيز على تأثير الذكاء الاصطناعي، وتوقعات التوظيف لمنظمة التعاون والتنمية في الميدان الاقتصادي، إضافة لمناقشة التطورات الرئيسية المتعلقة بالحماية الاجتماعية، وتغطية الضمان الاجتماعي لأشكال الحماية الجديدة وتعزيز استقرار العمال. وتهتم الاجتماعات بمعالجة فجوات المهارات العالمية، والوساطة في أسواق العمل الدولية من أجل وظائف جديدة، ومناقشة واقع العمالة المؤقتة، والاستفادة من التكنولوجيا الرقمية. وسيصدر بنتائج مناقشات هذه الاجتماعات وثيقة ستقدم إلى قمة قادة مجموعة العشرين، بما تحمله من رؤية واضحة والتزامات بالتعامل الجاد مع فجوات المهارات العالمية وسوق العمل من أجل التنمية المستدامة.
وناقش وزراء العمل في مجموعة العشرين خلال يوليو 2023، تحديات وتطورات سوق العمل، للخروج بتوصيات مشتركة في قضايا العمل الدولي، بهدف تطوير سياسات العِمالة وتحقيق المزيد من الحماية الاجتماعية، وضمان مستقبل عمل شامل ومُستدام وقادر على الصمود أمام التحديات العالمية الراهنة، ويمكن توضيح ذلك على النحو التالي:
(*) اهتمام الدولة المصرية بالقضايا العمالية: أصبح ملف العمل على رأس أولويات الدولة المصرية بتوجيهات وقرارات الرئيس عبدالفتاح السيسي، من أجل المزيد من حماية ورعاية العمال في الداخل والخارج وتوفير الحياة الكريمة للفئات الأكثر احتياجًا، وتأثرًا بتلك التحديات التي ضربت العالم أجمع، فمصر تتطلع إلى المزيد من التعاون، والعمل المشترك مع الشركاء المحليين والدوليين لدعم كل مبادرات التنمية المُستدامة التي توفر فرص العمل وتحقق الحماية والرعاية لكل الفئات التي تحتاج إلى ذلك.
فقد تم استعراض تجربة مصر الرائدة في الحماية الاجتماعية أمام وزراء العمل في مجموعة العشرين، يوليو الماضي، فضلًا عما يشهده ملف العمل من أنماط عمل جديدة. فقد قامت الدولة المصرية بعدد من الإجراءات الاحترازية التي ساعدتها على مواجهة آثار وتداعيات التحديات التي تواجه العالم أجمع خاصة في قطاع العمل، وأيضًا سياسات مصر في دعم وتمكين المرأة والتوازن بين الجنسين في سوق العمل ودعم الشباب وتأهيلهم لدخول سوق العمل الداخلي والخارجي.
(*) الاستثمار في الشباب والحياة الكريمة: تؤكد الدولة المصرية دومًا أهمية الاستثمار في الشباب، وتنمية مهاراتهم، وتوفير حياة كريمة لهم، كونهم المُحرك الرئيسي للتنمية في كل البلدان، لا سيما النامية والفقيرة منها، وأهمية وضعهم في مقدمة المشمولين بالرعاية وتزويدهم بالمهارات اللازمة وصولًا إلى التشغيل المُستدام مع الأخذ في الاعتبار الانتقال العادل نحو الاقتصاد الأخضر، والتحول الرقمي، والعمل على المزيد من الاهتمام بالمهارات اللازمة للمستقبل بما في ذلك الأنماط الجديدة للعمل، والعمل عبر المنصات المُختلفة لمواكبة التغيرات الهائلة في عالم العمل جرّاء التحديات الراهنة".
(*) تعزيز حقوق الإنسان: إن القضاء على عمل الأطفال والعمل القسري فى سلاسل القيمة العالمية، وتحقيق المساواة والحماية الاجتماعية، سيُسهم بشكل فعّال في تعزيز حقوق الإنسان، والمُضي قُدمًا في التنمية المُستدامة للاقتصاد العالمي، لكن يجب أن يتم ذلك دون اتخاذ إجراءات تمييزية مُستحدثة، وأن يتم مراعاة التقدم في ذلك السياق من جانب البلدان الأقل نموًا، وعدم فرض تعقيدات أمام حركة التجارة العالمية، ومنع خلق عوائق وأعباء اقتصادية، بجانب ما يشهده الاقتصاد العالمي من آثار سلبية بسبب الأزمات الدولية الراهنة.
(*) أهمية الحوار الدولي: كشفت الأزمات المتتالية التي يشهدها العالم ورصدتها تقارير دولية خاصة بارتفاع نسب البطالة، وغياب الحماية والرعاية الاجتماعية حول العالم، عن أهمية العمل المشترك من أجل الحوار بين كل الأطراف، ووضع رؤية وتنسيق عالمي لدعم كل المبادرات التي من شأنها تحقيق الحماية والعدالة الاجتماعية، وتوفير فرص عمل لائقة ودعم الشباب والمرأة، وإشراكهم في عمليات التنمية. وتتجلى أهمية توسيع نطاق الحماية الاجتماعية في ظل تباطؤ الاقتصاد العالمي وارتفاع معدلات البطالة وما يصحبه من تزايد لمعدلات الفقر ونمو الاقتصاد غير الرسمي، خلال فترة ما بعد جائحة كورونا، الأمر الذي يفرض على جميع الحكومات اتخاذ إجراءات استثنائية ومُستدامة في سياق العدالة الاجتماعية علاوة على أهمية تضافر الجهود بين الجميع وعلى كل المستويات للوصول إلى جميع الفئات المستهدفة، التي تحتاج إلى الدعم.
(*) التحديات العمالية ودور الدولة المصرية: فالتحديات التي واجهت العالم خاصة في السنوات القليلة الماضية، أثرت بالفعل على كل اقتصاديات العالم، وكان ملف العمل من الملفات التي عانت وتعاني بسبب هذه التحديات العالمية. وفي مصر لم تقف الدولة بكل مؤسساتها الوطنية مكتوفة الأيدي، بل كانت توجيهات الرئيس عبدالفتاح السيسي، واضحة وصريحة في هذا الشأن، وأصبحت برامج الحماية والعدالة الاجتماعية عنوان الدولة وخارطة طريقها. فهناك على سبيل المثال لا الحصر، المبادرة الرئاسية "حياة كريمة" التي أطلقها الرئيس السيسي في الثاني من يناير 2019، بهدف تحسين الحياة للفئات الأكثر احتياجًا، والمُساهمة في الارتقاء بمستوى الخدمات اليومية المقدمة للمواطنين خاصة في القرى، وتقديم حزمة مُتكاملة من الخدمات التي تشمل جوانب صحية واجتماعية ومعيشية، من خلال التعاون بين 20 وزارة وهيئة و23 منظمة مجتمع مدني، لتنفيذ المشروع التنموي الأهم على الإطلاق.
(*) تعزيز الحوار الاجتماعي وعلاقات العمل: تعمل وزارة القوى العاملة المصرية على مجموعة من الملفات التي من شأنها تعزيز الحوار الاجتماعي وعلاقات العمل، بين أطراف الإنتاج الثلاثة من حكومة وأصحاب أعمال وعمال، وتقديم الدعم المستمر للعمالة غير المنتظمة، فمصر بصدد تأسيس صندوق لها للتوسع في قاعدة بياناتها، وتقديم المزيد من الحماية والرعاية، ودمج ذوي الهمم في سوق العمل، والوقوف بجانب العمال في الشركات المُتعثرة بسبب التحديات العالمية، من خلال صندوق إعانات الطوارئ للعمال، كما تضع الوزارة ملف التدريب المهني للشباب وتنمية مهاراتهم وربط ذلك باحتياجات سوق العمل في مقدمة أولوياتها وتنسق لذلك مع شركاء التنمية في الداخل والخارج عبر التنسيق مع القطاع الخاص في عملية التنمية، من خلال ربط التدريب باحتياجات سوق العمل، بالإضافة إلى دعم كل برامج النهوض بالتعليم الفني والصناعي.
(*) رعاية العمالة المصرية في الخارج: تتحقق حماية ورعاية العمالة المصرية في الخارج، من خلال مكاتب التمثيل العمالي المنتشرة في عدد كبير من بلدان العالم، من خلال "وحدة توجيه ما قبل المغادرة"، وهي واحدة من أذرع الوزارة للتوعية وحماية المصري الراغب في العمل بالخارج من عمليات الاحتيال أو الاستغلال، وتوعيته قبل السفر بحقوقه وواجباته لضمان عمل لائق يحقق له الحماية الاجتماعية اللازمة.
تأزم متزايد:
تتزايد يومًا بعد يوم حدة تداعيات الأزمات العالمية الممتدة الآثار السلبية "أزمة كورونا ثم الأزمة الأوكرانية الروسية" على العديد من شعوب العالم خاصة الشعوب الإفريقية، لذلك تم طرح هذه الرؤية في أثناء اجتماعات وزراء مالية مجموعة العشرين في الهند، فبراير 2023، إذ تقوم هذه الرؤية على ضرورة تعزيز قدرات الدول النامية في مواجهة الأزمات العالمية، حتى تستطيع تلبية الاحتياجات الأساسية لشعوبها خاصة الغذاء والوقود، فقد حان الوقت لتحركات دولية أكثر مرونة لسد الفجوات التمويلية للاقتصادات الناشئة، إذ بات وصولها لأسواق التمويل الدولية أكثر صعوبة وكُلفة بعد تزايد حدة الموجة التضخمية، وارتفاع أسعار الفائدة، وتكلفة التمويل، في وقت تحتاج فيها أيضًا للتكيف مع المتغيرات المناخية بما تتضمنه من أعباء إضافية ضخمة، فقد طرحت مصر المبادرتين اللتين أطلقتهما مصر خلال قمة المناخ، بشأن خفض تكلفة التمويل المستدام، ورابطة الديون المستدامة. وتشهد هذه الاجتماعات عرض العديد من المشروعات، التي تستهدف دعم خطة مصر للتنمية المستدامة في ضوء رؤية وأهداف "مصر 2030"، التي أسهمت في جعل مصر سوقًا جاذبة للمستثمرين العالميين، ووضع مصر على خريطة التمويل المستدام.
في النهاية، يمكن القول إن المشاركة المصرية في اجتماعات مجموعة العشرين هي مشاركة نشطة ومؤثرة في مختلف اجتماعات المجموعة، من أجل تعزيز العمل الدولي المشترك في الموضوعات المدرجة على جدول الأعمال، خاصة القضايا ذات الأولوية لمصر وإفريقيا والدول النامية، مثل الغذاء والطاقة والمناخ وتمويل التنمية وإصلاح النظام الاقتصادي العالمي. فدعوة مصر لحضور القمة المقبلة، يأتي في ظل حرص المجموعة على الاستماع إلى وجهة النظر المصرية في العديد من القضايا التي تشغل الرأي العام العالمي، والأخذ برأيها في إيجاد حلول للعديد من التحديات التي تواجه العالم، فمصر قادرة على الوقوف مع العالم الخارجي في مواجهة التحديات العالمية سواء اقتصاديًا أو سياسيًا.