يأتي انعقاد أولى جلسات الحوار الاستراتيجي بين الولايات المتحدة الأمريكية وجامعة الدول العربية في واشنطن 19 يوليو 2023، ليعكس العديد من الدلالات الرمزية في هذا التوقيت باعتبار أن الجامعة فاعل إقليمي مؤثر يسهم الحوار معها في تعزيز التعاون بين الجانبين.
وعُقدت فعاليات الحوار برئاسة الأمين العام لجامعة الدول العربية أحمد أبو الغيط، ووزير الخارجية الأمريكي أنتوني بلينكن، ويعد هذا الحوار الأول منذ تأسيس الجامعة في عام 1945.
قضايا الحوار:
وصف بيان لمتحدث الخارجية الأمريكية في 20 يوليو 2023 المباحثات بين الولايات المتحدة والجامعة العربية بأنها ناجحة، وأن واشنطن تثمّن العلاقة معها، وتلتزم باستمرار التعاون من أجل "تعزيز السلام والأمن والاستقرار والتكامل والازدهار الاقتصادي".
وأكد البيان أن الطرفين ناقشا قضايا السلام في الشرق الأوسط والصراع الفلسطيني- الإسرائيلي، فضلًا عن التطرق لمسألة عدم الانتشار النووي وضبط التسلح ضمن قضايا أخرى متعددة الأطراف. وتطرقت المباحثات إلى استمرار التعاون بين الجانبين في مكافحة التطرف والعنف والإرهاب، خاصة أنشطة تنظيمي "القاعدة" و"داعش" الإرهابيين ودور التعليم في مواجهة العنف والتطرف. وأدان البيان التهديدات أو عمليات السطو المسلح وكذلك الهجوم ضد السفن التجارية، التي تتنافي مع قواعد حرية الملاحة البحرية في الممرات الاستراتيجية بالمنطقة.
دوافع متعددة:
هناك العديد من الدوافع التي أدت إلى انعقاد الحوار الاستراتيجي بين الولايات المتحدة الأمريكية وجامعة الدول العربية، ويمكن الإشارة إلى أهمها على النحو التالي:
(*) تقليد أمريكي متبع: تمثل الحوارات الاستراتيجية سواء مع دول أو منظمات إقليمية ودولية تقليدًا أمريكيًا متبعًا، تسعى الولايات المتحدة من خلاله إلى توضيح استراتيجيتها إزاء الأطراف المنخرطة معها فى المباحثات، كما تسعى إلى التعرف على أهداف وسياسات الأطراف الأخرى، وتوجهاتها إزاء الولايات المتحدة الأمريكية ومصالحها، لذلك تشكل تلك الحوارات آلية سلمية لإدارة الخلافات أو الاختلافات بين الجانبين، والتعرف على المساحات المشتركة من المصالح المتبادلة، وإدراك التحديات التي تواجه الطرفين، وكيفية التصدي لها بما يعظم المكاسب المشتركة ويحد من الإدراك الخاطئ وسوء الفهم بين الطرفين.
(*) محورية العلاقات العربية الأمريكية: على الرغم من أن إدارة الرئيس الأمريكي الأسبق باراك أوباما رفعت شعار "التوجه شرقًا"، وذلك لمواجهة تمدد الصين ومحاولة الحد من صعودها، وهو الأمر الذي دفع العديد من الخبراء والمحللين، لتوقع تخفيف الولايات المتحدة من ارتباطاتها في منطقة الشرق الأوسط نظرًا لارتفاع تكلفة صراعات المنطقة التي تحتاج لأن تتحمل دولها تكلفة تسوية تلك الصراعات المعقدة، إلا أن المصالح الاستراتيجية للولايات المتحدة الأمريكية فى المنطقة العربية، تدفع بالعلاقات العربية الأمريكية نحو مزيد من التعاون، وفي مقدمتها القضية الفلسطينية وتأمين إسرائيل في ظل الانحياز الأمريكي المطلق لإسرائيل، والذي لا يختلف من إدارة أمريكية إلى أخرى، وتأمين إمدادات النفط للدول الغربية، وهو الأمر الذي تجلى بوضوح عقب الأزمة الروسية الأوكرانية، حيث اتجهت عدة دول أوروبية نحو عقد اتفاقات مع عدد من الدول العربية المنتجة للطاقة سواء البترول أو الغاز لتأمين إمداداتها، لاسيما وأن الدول الأوروبية تستهلك ما يقرب من 40% من احتياجاتها من الغاز الروسي، لذلك تمثل المصالح الأمريكية في المنطقة العربية دافعًا رئيسيًا لإجراء الحوار مع جامعة الدول العربية التي تشكل الإطار الإقليمي الذي يتبنى القضايا العربية ويسهم في الدفاع عنها.
(*) حيادية الدول العربية من الأزمة الروسية الأوكرانية: عكست مواقف الدول العربية من الأزمة الروسية الأوكرانية انتقادًا أمريكيًا لحيادية الدول العربية إزاء أطراف الصراع، رغبةً في تجنيب المنطقة العربية أي استقطابات دولية تعمق الانقسام، وخاصة أن الأزمة أنتجت حالة من الاصطفافات السياسية ما بين قوى داعمة لروسيا من ناحية، وقوى التحالف الغربي الداعم لأوكرانيا بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية والدول الأوروبية من ناحية أخرى، لذلك دعا البيان الختامي للقمة العربية بالجزائر في نوفمبر 2022، إلى الالتزام بمبادئ عدم الانحياز وبالموقف العربي المشترك من الحرب الذي يقوم على نبذ استعمال القوة، والسعي لتفعيل خيار السلام عبر الانخراط الفعلي لمجموعة الاتصال الوزارية العربية التي تضم (الجزائر، مصر، الأردن، الإمارات، العراق، والسودان، والأمين العام لجامعة الدول العربية)، في الجهود الدولية الرامية لبلورة حل سياسي للأزمة يتوافق مع مبادئ ميثاق الأمم المتحدة ويراعي الشواغل الأمنية للأطراف المعنية، مع رفض تسييس المنظمات الدولية.
وربما يشكل توجهات الدول العربية وعدم انحيازها لأي من أطراف تلك الأزمة وانتهاجها أيضًا لمبدأ استقلالية القرار الوطني، الذي تجلى في رفض "أوبك +" زيادة ضخ كميات إضافية من البترول في الأسواق العالمية لتعويض النقص في المعروض بعد اندلاع الأزمة الروسية الأوكرانية دافعًا نحو اتجاه الولايات المتحدة الأمريكية لإجراء الحوار الاستراتيجي مع الجامعة العربية.
(*) الموقف من الصين: يشكل الموقف الأمريكي من الوجود الصيني في المنطقة العربية سواء من الناحية الاقتصادية أو من ناحية تعزيز دبلوماسيتها وتدخلها لحلحلة أزمات المنطقة ومنها جهودها في توقيع ورعاية الاتفاق السعودي الإيراني في 10 مارس 2023، لذلك دعا البيان الصادر عن الحوار الاستراتيجي بين الولايات المتحدة وجامعة الدول العربية إلى أهمية تأمين البنية التحتية لتكنولوجيا المعلومات والاتصالات. وأشار الخبراء إلى أن هذا البند هو تعبير دبلوماسي ربما يقصد به تحذير الولايات المتحدة الأمريكية للدول الأخرى من استخدام التكنولوجيا الصينية التي تنتمي إلى الجيل الخامس في عالم الاتصالات والمعلومات بدعوى أن بكين تستخدمها للتجسس.
(*) مكافحة الإرهاب: يشكل مكافحة الإرهاب بندًا ثابتًا في استراتيجية الولايات المتحدة الأمريكية إزاء المنطقة العربية، لا سيما بعد انتشار التنظيمات الإرهابية والمتطرفة عقب الاضطرابات التي صاحبت ما سُمي بـ"الربيع العربي"، التي كانت لها أدوارها السلبية في ترويع المجتمعات والسيطرة على مناطق من دول؛ بما أدى لنزوح الملايين من مناطق إقامتهم كما حدث فى العراق وسوريا، لذلك أكد البيان المشترك الصادر عن وزارة الخارجية الأمريكية أهمية إشراك المجتمعات وبناء المرونة بمواجهة التجنيد لأعمال العنف ودعم دور التعليم في مواجهة التطرف والتحول إلى العنف والإرهاب، فضلًا عن الثبات في المعركة ضد تنظيمي "داعش" و"القاعدة" الإرهابيين وكافة الجماعات الإرهابية الأخرى.
(*) تمكين المرأة: تعتبر الولايات المتحدة الأمريكية أن تمكين المرأة يشكل داعمًا للتنمية الشاملة، ونجحت غالبية الدول العربية في تمكين المرأة اقتصاديًا وسياسيًا، حيث كفلت لها الدساتير العربية حقها في الترشح والتصويت في الانتخابات العامة سواء في المؤسسات التشريعية أو النقابات المهنية أو الجامعات أو المحليات، كما ضمنت لها العديد من الوظائف في كافة المؤسسات التنفيذية والتشريعية والقضائية، لذلك لفت البيان المشترك للتصميم على العمل لتمكين المرأة اقتصاديًا وإشراكها في عمليات صنع القرار، والعمل على أن تتضمن النسخة الثامنة والعشرين من مؤتمر الأمم المتحدة المعني بتغير المناخ "كوب 28" مجموعة متنوعة من الأصوات النسائية لإفادة العملية.
مجمل القول؛ إن الحوار الاستراتيجي الذي عُقد لأول مرة بين الولايات المتحدة الأمريكية وجامعة الدول العربية يعكس أهمية ومحورية العلاقات العربية الأمريكية في هذا التوقيت الذي يشهد تغيرات عميقة على المستوى الإقليمي من خلال اتجاه دول الإقليم نحو تسوية صراعاتها وعقد المصالحات بين الدول العربية وجوارها الإقليمي. أما على المستوى الدولي فهناك تصاعد للدور الصيني وتعزيز لشراكاته الاقتصادية مع الدول العربية الفاعلة، وهي عوامل تدفع الولايات المتحدة الأمريكية إلى ضرورة إعادة صياغة مقارباتها نحو الدول العربية، لإرساء تلك العلاقات على أسس أكثر رسوخًا واستقرارًا بما يضمن مصالح الطرفين، ويعزز من ركائز التنمية في الدول العربية.