مع انخفاض معدل تضخم أسعار المواد الغذائية في الولايات المتحدة وأوروبا، يحذر محللون من حقبة جديدة من التقلبات في أسعار المواد الغذائية العالمية، والتي بدأت بسلسلة من التهديدات تتضافر بطرق غير مسبوقة، وفق ما ذكرت صحيفة" نيويورك تايمز" الأمريكية.
ونقلت الصحيفة عن محللين إن مجموعة من الكوارث - الطقس القاسي، واستهداف إمدادات الحبوب في أوكرانيا، واستعداد بعض الدول المتزايد لإقامة حواجز حمائية أمام تجارة المواد الغذائية - ترك الإمدادات الغذائية أكثر ضعفًا وأقل استعدادًا لاستيعاب أي اضطراب واحد.
قال دينيس فوزنيسينسكي، محلل السلع الأساسية في رابوبانك في سيدني بأستراليا: "هذا هو الوضع الطبيعي الجديد الآن، مع مزيد من التقلب وعدم القدرة على التنبؤ، سواء كان ذلك في أسعار السلع الأساسية أو أسعار المواد الغذائية".
حتى بدون حدوث اضطرابات كبيرة، يمكن أن تكون أسعار المواد الغذائية متغيرة، والعديد من العوامل تلعب دورًا في سعر بوشل القمح أو رغيف الخبز.
انسحاب روسيا من اتفاقية الحبوب
في الشهر الماضي، انسحبت روسيا من اتفاقية الحبوب في البحر الأسود، والتي سمحت بتصدير المحاصيل الأوكرانية عن طريق البحر. وارتفع مؤشر أسعار الغذاء التابع للأمم المتحدة في يوليو، ما أدى إلى توقف اتجاهه الهبوطي المستمر منذ شهور بسبب قفزة في أسعار الزيوت النباتية، مدفوعة جزئيًا بالمخاوف بشأن نقص بذور عباد الشمس الأوكرانية.
الجفاف في الهند وإندونيسيا
أدى الجفاف في الهند وإندونيسيا وغيرهما من مصدري الأغذية الآسيويين إلى انخفاض المحاصيل. وفي مواجهة غضب المستهلكين من ارتفاع الأسعار، حظرت الحكومات تصدير الأطعمة الحيوية، مما تسبب في مزيد من الاضطرابات. منذ أواخر يونيو، قفز سعر المعيار الآسيوي للأرز بنسبة 25 في المائة، وفقًا لاتحاد مصدري الأرز التايلاندي.
ارتفاع تكاليف العمالة
هناك عوامل أخرى تضغط على الأسعار على أرفف السوبر ماركت، بما في ذلك ارتفاع تكاليف العمالة، حيث يحاول العمال مواكبة التضخم. ويجد منتجو المواد الغذائية أنه في بيئة ترتفع فيها الأسعار، يمكنهم رفعها إلى أعلى لتعزيز أرباحهم.
مقارنة مع أوائل عام 2020، ارتفعت أسعار المواد الغذائية الاستهلاكية بنحو 30 في المائة في أوروبا و23 في المئة في الولايات المتحدة.
كان لهذه الاضطرابات تأثير سلبي غير متناسب على صغار المزارعين والأشخاص الذين يعيشون في البلدان المنخفضة الدخل، بينما تركت العالم عرضة للاضطرابات المستقبلية.
في العام الماضي، واجه أكثر من 700 مليون شخص الجوع، وكان 2.4 مليار شخص يفتقرون إلى الغذاء الكافي على مدار العام، وفقًا للأمم المتحدة.
قال ماكسيمو توريرو، كبير الاقتصاديين في منظمة الأمم المتحدة للأغذية والزراعة "إن تراكم الصدمات الأخيرة في السنوات القليلة الماضية قد وضع البلدان في وضع سيئ للغاية". "إذا حدثت صدمة أخرى اليوم، فأنا بصراحة لا أعرف كيف سيتعاملون معها."
الطقس القاسي
قال هيرال باتيل رئيس قسم البحوث والاستدامة والموضوعية في بنك "باركليز" في لندن، إن الطقس القاسي كان هذا العام، هو العامل الرئيسي في اضطراب أسعار المواد الغذائية.
وحطمت موجات الحر الأرقام القياسية في الصين، واندلعت حرائق الغابات في جنوب أوروبا وشمال إفريقيا، وكان شهر يوليو هو أكثر الشهور حرارة في العالم على الإطلاق.
فيضانات باكستان
في باكستان، جرفت الفيضانات الكارثية في عام 2022 الكثير من محاصيل البلاد، وصل المعدل السنوي لتضخم أسعار الغذاء إلى ما يقرب من 49 في المئة في مايو، وفقًا لبرنامج الأغذية العالمي التابع للأمم المتحدة.
ويحذر خبراء الأرصاد من أن الأرض يمكن أن تدخل فترة متعددة السنوات من الدفء الاستثنائي، مدفوعًا بانبعاثات غازات الدفيئة وعودة ظاهرة النينو، وهو نمط طقس دوري. ويقول باتيل: "هناك فرص متزايدة لحدوث خسائر متزامنة للمحاصيل في أجزاء مختلفة من العالم".
تم تعديل توقعات غلات المحاصيل في أوروبا، بما في ذلك القمح اللين والشعير الربيعي، بشكل أدنى مؤخرًا من قبل المفوضية الأوروبية بسبب "الظروف الأكثر جفافًا بشكل واضح من المعتاد" في أجزاء كبيرة من القارة.
قال جوزيف جلوبر، وهو زميل أبحاث كبير في المعهد الدولي لبحوث السياسات الغذائية، إن تقليص إنتاج الغذاء في منطقة واحدة لمدة عام، لا يهم عادة كثيرًا في سوق مرن وديناميكي. لكن المشكلة تبرز عندما تتعطل المحاصيل لبضع سنوات في أسواق متعددة- على سبيل المثال، بسبب الجفاف.
أضاف جلوبر: "إن ذلك يؤدي إلى مزيد من التقلبات في المستقبل - إنها إحدى أوجه عدم اليقين بشأن تغير المناخ، فحالات الجفاف المستمرة يمكن أن تؤدي إلى عجز إقليمي، ومع عدم قدرة البلدان الفقيرة على تحمل أسعار أعلى، فإن ذلك يؤدي إلى مشاكل تتعلق بالأمن الغذائي".
الحرب في أوكرانيا
في الشهر الماضي، عندما انسحبت روسيا من اتفاقية الحبوب في البحر الأسود، ثم تعرض مستودعات تخزين الحبوب في أوكرانيا للقصف، ارتفع سعر القمح، ما أدى بدوره إلى ارتفاع أسعار الذرة وفول الصويا.
وقدر بيير أوليفييه جورينشاس، كبير الاقتصاديين في صندوق النقد الدولي، مؤخرًا أن نهاية اتفاقية الحبوب قد تؤدي إلى ارتفاع أسعار الحبوب بنسبة 10 إلى 15 في المئة.
ورغم أن هذه قفزة كبيرة، إلا أنها أقل من الارتفاع المفاجئ في الأسعار في الأسابيع الأولى من الحرب.
وعززت أوكرانيا من قدرتها على تصدير الحبوب عبر السكك الحديدية والنهر، لكن هذه الطرق البديلة تكلف أكثر، كما قال فوزنيسينسكي من رابو بانك. وهذه الطرق ليست محصنة ضد الهجمات أو سوء الأحوال الجوية، بما في ذلك الجفاف.
قال فوزنيسينسكي: "لا يمكنك معرفة ما سيفعله بوتين غدًا". "لا يمكنك معرفة متى ستفرض الحكومة قيودًا على التصدير". وأضاف "أن زيادة تدخل الحكومات في إمدادات الغذاء ستخلق الكثير من عدم القدرة على التنبؤ".
الحمائية التجارية
شجع التقلب في أسعار المواد الغذائية بعض الحكومات على اللجوء إلى تقييد التجارة من أجل إبقاء مخازن المواد الغذائية الثمينة أقرب إلى الوطن.
في الشهر الماضي، أصدرت الهند، أكبر مورد للأرز في العالم، حظرًا على تصدير الأرز الأبيض غير البسمتي. قالت الحكومة الهندية إن الهند فرضت رسوم تصدير بنسبة 20 في المئة على هذا الأرز العام الماضي، لكن الصادرات استمرت في الارتفاع بسبب القضايا الجيوسياسية والظروف المناخية القاسية في البلدان الأخرى.
وذكرت منظمة الأغذية والزراعة التابعة للأمم المتحدة "الفاو"، مؤخرا، أن أسعار الأرز في يوليو ارتفعت بنحو 20 بالمئة عن العام السابق، مما دفع مؤشر أسعار الأرز لديها إلى أعلى مستوى في 12 عامًا.
الهند ليست وحدها التي اتخذت مثل هذه الإجراءات. بشكل عام، قفز عدد القيود أو الزيادات الضريبية على الصادرات الغذائية بنسبة 62 في المئة منذ العام الماضي، وفقًا لجلوبال تريد أليرت، وهي منظمة غير ربحية مقرها في سويسرا.
على الصعيد العالمي، هناك 176 من القيود المفروضة على الصادرات سارية المفعول على الأغذية أو الأعلاف أو الأسمدة.
حذر الاقتصاديون وخبراء التجارة من هذه الأنواع من السياسات. على الرغم من أنها قد تحمي المستهلكين المحليين من تضخم الغذاء على المدى القريب، إلا أنها في النهاية تزيد من تفاقم أنواع نقص الغذاء العالمي الذي تحاول الحكومات التخفيف منه.
في قمة الأمن الغذائي الأخيرة التي استضافتها الأمم المتحدة في روما، حثت نجوزي أوكونجو إيويالا، المديرة العامة لمنظمة التجارة العالمية، الدول على رفض الحمائية والتحول إلى تجارة أكثر انفتاحًا كوسيلة لمعالجة نقص الغذاء.
بالنسبة للعديد من البلدان، تفاقمت المشكلة بسبب ضعف قيمة عملاتها مقارنة بالدولار الأمريكي، مما يجعلها غير قادرة على شراء العديد من السلع المقومة بالدولار، كما كانت من قبل.
تكاليف غير مرئية
ونظرًا لأن منتجي الأغذية يتعاملون مع المزيد من مخاطر الإمداد، فإن النفقات ذات الصلة آخذة في الارتفاع أيضًا. يأتي جزء كبير من تكلفة الطعام الذي نأكله في المنزل من النقل والنفقات الأخرى التي تتحملها شركات الأغذية - وليس فقط من تكلفة السلع الأساسية لزراعة القمح أو السكر. وبعض هذه التكاليف غير الزراعية آخذة في الارتفاع أيضًا.
فالشركات مضطرة لصرف الأموال من أجل بوليصات التأمين للتعامل مع الطقس القاسي والتعامل مع موردين جدد لجعل أعمالهم أكثر مرونة.
وأدى الجفاف المستمر إلى خفض مستويات المياه على طرق الشحن الرئيسية، بما في ذلك قناة بنما ونهر الراين في أوروبا، مما يتطلب من الشاحنين تخفيف أحمالهم أو إيجاد طرق أخرى.
ثم هناك تكلفة جهود الاستدامة حيث تسعى البلدان إلى تحقيق أهداف صافي الانبعاثات الصفرية. إجمالًا، نمت مخاطر استمرار ارتفاع أسعار المواد الغذائية أو تأرجحها بشكل أكبر.
وقال باتيل من بنك باركليز: "هناك مجموعة من الصدمات الخارجية الجديدة، وتلك العوامل تجعل من الصعب للغاية التنبؤ بمدى تقلبها في المستقبل."