يُعد مهرجان القاهرة السينمائي الدولي حدثًا ثقافيًا إلى جانب كونه حدثًا سينمائيًا مهمًا أيضًا، فالأفلام التي يعرضها المهرجان تعطي للمُشاهد المصري نظرة عن قرب لعوالم البلدان والثقافات المختلفة التي تأتي منها هذه الأفلام.
ضم برنامج عروض المهرجان هذا العام مجموعة من الأفلام اليابانية المتميزة على الصعيد الفني والتقني الموزعة على أقسامه المختلفة، التي لا تعطينا فقط فكرة عامة عمّا وصلت إليه صناعة السينما في اليابان، ولكن الأهم هو أنها تعطينا فكرة دقيقة عن الموضوعات المُلحة على صناعها ورؤيتهم للمجتمع الياباني حاليًا، ومحاولاتهم لرصد ما يعاني منه من مشكلات سياسية واقتصادية واجتماعية أدَّت إلى خلل ملحوظ في البناء الاجتماعي الياباني وتأثيره في الشباب تحديدًا.
مشكلات يعتقد الكثيرون أنه ليس من المنطقي أن تعاني منها دولة تُصنف كواحدة من أكثر الدول تقدمًا وازدهارًا على مستوى العالم مثل اليابان أو "كوكب اليابان" كما يُطلق عليها، ولكن بفضل الأفلام التي يعرضها المهرجان هذا العام، يمكننا التعرف على وجه آخر لليابان التي لا نعرفها.
رجل ما أو A Man
تدور أحداث الفيلم حول ري التي تخوض تجربة طلاق صعبة، وبعد أن تعتقد بأن حياتها توقفت، تقع في حب دايسوكي وتتزوجه وتعيش معه حياة أقرب للمثالية.
يتوفى دايسوكي إثر حادث مأساوي، وتكتشف ري في جنازته أنه ليس دايسوكي بل هو رجل آخر، لتخوض رحلة بحث عن هوية الرجل الذي أحبته وتزوجته.
الفيلم مأخوذ عن رواية بالاسم نفسه للكاتب الياباني كيتشي هيرانو، ويتمتع ببناء درامي شيق يستمد غموضه من غموض النفس البشرية التي يحاول كشف بعض أسرارها، وأهم ما يميزه هو محاولة الوصول إلى إجابات لتساؤلات تصل بعضها إلى مصاف التساؤلات الوجودية عن الهوية والإحساس بالضياع.
ولكن يعطي لنا الفيلم أيضًا صورة مقربة لواحدة من أكثر المشكلات شيوعًا في اليابان في الوقت الحالي، وهي التعامل مع المهاجرين إلى اليابان من الجنسيات الأخرى، إذ يعاني المهاجرون القيود المفروضة عليهم من الحكومة اليابانية فيما يخص فرص العمل وامتلاك الشقق السكنية، إلى جانب معاناتهم في الاندماج في المجتمع عامة.
وينظر المواطنون في اليابان إلى المهاجرين نظرة الغرباء أو العمالة الوافدة، ما يخلق لديهم حالة فصام اجتماعي تؤدي في النهاية إلى اضطراب الهوية، وهو الموضوع الذي تعرض له الفيلم الياباني الفيتنامي المشترك Along the Seaوالذي عُرض ضمن برامج مهرجان القاهرة في دورة عام 2020.
الخطة 75 أو Plan 75
بدأت فكرة الفيلم كعمل قصير ضمن مجموعة أفلام قصيرة أشرف على كتابتها وتطويرها وإنتاجها المخرج الياباني الفائز بجائزة السعفة الذهبية عام 2018 هيروكازوا كوريدا، وكانت الغاية من هذا المشروع أن يرصد كل مخرج من مخرجي الأفلام القصيرة تغيرًا ما طرأ على المجتمع الياباني أسهم في تغييره، ووضع كوريدا للمشروع عنوان "المسؤولية الذاتية"، عن مجموعة مختارات أدبية بعنوان اليابان في عشر سنوات.
استلهمت المخرجة الواعدة تشي هاياكاوا أحداث فيلمها من الحادثة الحقيقية "عمليات طعن ساغاميهارا" التي وقعت في 26 يوليو عام 2016، حيث قتل موظف بدار رعاية للمسنين ذوي الاحتياجات الخاصة يُدعى ساتوشي أويماتسو، تسعة عشر شخصًا وإصابة ستة وعشرين آخرين.
حادثة بشعة هزت المجتمع الياباني كله، ودقت ناقوس الخطر بالمتغيرات التي طرأت عليه، وصرحت المخرجة بأنها تعتقد أن مجتمع اليابان غير متسامح وأن عددًا من الإجراءات الحكومية تُعمق قيم الفردانية لا قيم التكافل المجتمعي.
كانت تلك الحادثة البشعة هي الشرارة الأولى لفيلم الخطة 75 الذي أرادت من خلاله المخرجة أن تتساءل ماذا لو أصبح الموت اختيارًا؟ ماذا لو حاوطتك في كل مكان إعلانات تحثك على اختيار ميعاد وفاتك وتحديد تفاصيل موتك؟
كلها تساؤلات صادمة يطرحها فيلم الخطة 75 الحائز على تنويه خاص بأحدث دورات مهرجان كان السينمائي من خلال أسلوب سينمائي شاعري، ومن منطلق نقدي للواقع الاجتماعي الياباني الحالي.
تبحث هياكاوا مع أبطال فيلمها عن جدوى الحياة ومعناها وقيمتها، عن دوافع العيش والأهم عن الأسباب التي من الممكن أن تدفعنا لاختيار الموت.
تدور أحداث الفيلم حول برنامج حكومي تُطلقه الحكومة اليابانية بعنوان "الخطة 75" الذي يُشجّع كبار السن على اختيار الموت طواعيةً، ويساعدهم على إنهاء جميع الإجراءات والترتيبات المتعلقة به، للتخلص من مجتمع متقدم في العمر، ومن خلال الفيلم نتابع رحلة مجموعة من المسنين تتلاشى أسباب بقائهم على قيد الحياة، وهم يخوضون تجربة الاستعداد للموت.
حب الحياة أو Love life
موضوع العائلة والترابط الأسري هو أحد أهم الموضوعات بل من الموضوعات الرئيسية التي تطرحها الأفلام والسينما اليابانية منذ بداياتها مرورًا بأفلام مثل قصة طوكيو أوTokyo Story للمخرج ياسوجيرو أوزو إنتاج عام 1953، وغيره من الأفلام، وأسهم حصول الفيلم الشهير "سارقو المتاجر" أو shopliftersللمخرج هيروكازوا كوريدا على سعفة مهرجان كان الذهبية عام 2018 على عودة ذلك الموضوع بشكل ملحوظ ليس فقط إلى الأفلام اليابانية، ولكن للأفلام الآسيوية عامة، حتى إنه بات توجهًا سائدًا، في محاولة للوقوف على الأسباب الجوهرية لتفسخ العلاقات العائلية والأسرية في المجتمع الياباني حاليًا.
وينتمي فيلم "حب الحياة" للمخرج كوجي فوكادا لهذا التوجه، فمن خلال نموذج أسرة تايكو وجيرو نتعرف على المصاعب التي من الممكن أن تواجهها مطلقة لها طفل من علاقة سابقة في التكيف مع والدا زوجها خاصة الأب الذي ينقم عليها كون زواجها من ابنه هو الذي منعه من الانتقال معهما والاستقرار في إحدى المدن الريفية.
تدور أحداث الفيلم حول الثنائي تايكو وجيرو اللذين يعيشان حياة زوجية هانئة، لكن حياتهما تتعرض لاختبار قاسٍ جدًا بعد أن تفقد تايكو ابنها من زواجها الأول ويعود طليقها الأصم المُشرد والد الطفل للظهور في حياتها، فتصر على مساعدته على مواصلة حياته، والتغلب على مشاعر الحزن والندم.
الفيلم هو بورتريه سينمائي شديد الدفء والحميمية، وبعين فنية استقصائية تُميز الأسلوب السينمائي للمخرج الموهوب كوجي فوكادا، يتعرض الفيلم لعدد من المشاعر الإنسانية المُربكة من بينها الحب، التسامح، مشاعر الفقد والخسارة، الوحدة وضرورة وجود التفَهم بين شركاء الحياة.
شاطئ بعيد أو A Far Shore
الفيلم هو تناول صادم لحياة شريحة من المراهقين في اليابان، المراهقين الذين يتخلى عنهم ذويهم، آباؤهم وأمهاتهم، والمحظوظون منهم هم من لديهم أجداد يلجئون إليهم في بعض المواقف كحال بطلة الفيلم، ولكن أغلبهم لا يتوفر له ذلك الخيار، ما يجعل الحياة قاسية بشكل لا يُحتمل، فكيف لمراهق في مرحلة التكوين النفسي والذهني والبدني والعقلي أن يتحمل مسؤولية نفسه وتكوين شخصيته وإدارة دفة حياته بشكل مُطلق، دون أي نوع من أنواع الدعم أو التوجيه.
كما يتتبع الفيلم مشكلة من أكثر المشكلات التي باتت تهدد أمن واستقرار المجتمع الياباني حاليًا، وهي تسرب كثيرًا من الأطفال والمراهقين واتجاههم لامتهان أعمال غير مشروعة للإنفاق على أنفسهم وذويهم.
فيلم شاطئ بعيد عن نموذج من هؤلاء المراهقين "أوي"، المراهقة التي تبلغ من العمر 17 عامًا وفي الوقت نفسه هي أم لطفل أنجبته من أب مستهتر تجمعها به علاقة سامة شديدة التعقيد.
تحاول أوي بشتى الطرق النجاة بنفسها وبطفلها من ظروف معيشية صعبة، ولكن تجبرها الحياة في النهاية على اتخاذ قرار قاسٍ لاعتقادها بأنه سبيلها الوحيد لتحقيق السلام الذي تنشده لها ولطفلها. وهي رؤية صادمة، مغايرة ولكنها في الوقت نفسه مُفعمة بالمشاعر للواقع الاجتماعي في اليابان.
يشير المخرج ماساكي كودو في فيلمه إلى اختلال توازن المجتمع الياباني نتيجة غض الطرف عن ظواهر اجتماعية تصل إلى حد الجرائم، منها العنف ضد المرأة، عمل القاصرات، التمييز القائم على الجنس، وذلك من خلال تجربة سينمائية متميزة على الصعيدين السردي والبصري.