يأتي انعقاد القمة الروسية الإفريقية الثانية في الفترة من 27 إلى 28 يوليو 2023، لتعكس الرغبة الروسية في تعزيز علاقاتها بالدول الإفريقية، وترجمة توجهاتها الاستراتيجية بالمجال الخارجي في السعي نحو إرساء قواعد لنظام دولي متعدد الأقطاب يحقق لروسيا مكانة دولية في تراتبية النظام الدولي الذي لا يزال قيد التشكل.
كما تسعى روسيا إلى توظيف وجودها في القارة الإفريقية، لتخفيف العقوبات الغربية المفروضة عليها منذ اندلاع الحرب الروسية الأوكرانية، التي كانت لها تداعيات شديدة الوطأة على كل الاقتصادات دون استثناء.
وتعقد القمة في سياق دولي مختلف عن ذلك الذي صاحب القمة الروسية الإفريقية الأولى، التي عقدت في أكتوبر 2019، إذ لا يوجد أي أفق لتسوية الصراع الروسي الأوكراني، وانسحاب روسيا من اتفاق حبوب البحر الأسود، وأزمة فاجنر وتأثيرها على الانتشار الأمني في عدد من الدول الإفريقية، ومدى تأثير كل تلك المتغيرات على الوجود الروسي في إفريقيا بشكل عام.
مداخل مؤثرة:
تعكس القضايا المطروحة للنقاش في القمة الروسية الإفريقية الثانية، تنوع الفرص التي يمكن أن تعود مكاسبها على الطرفين، إذ يتألف جدول منتدى روسيا-إفريقيا، الذي سيعقد خلال القمة من أربعة محاور رئيسية؛ الأول يناقش "اقتصاد العالم الجديد"، والثاني يتناول "الأمن المتكامل والتنمية السيادية"، فيما يبحث القادة في المحور الثالث التعاون في مجال العلوم والتكنولوجيا، وينصب المحور الرابع حول "المجال الإنساني والاجتماعي: معًا من أجل نوعية حياة جديدة"، فضلًا عن مناقشة آفاق التعاون فى مجالات الطاقة والتجارة والاقتصاد وإنشاء وتطوير طرق لوجيستية. لذلك فإن هناك العديد من المداخل الروسية التي تعزز من الوجود الروسي في إفريقيا، لعل أبرزها يتمثل في التالي:
(*) الرؤية الروسية لإفريقيا: نصت وثيقة السياسة الخارجية للاتحاد الروسي التي وقعها الرئيس فلاديمير بوتين، 2016، على أن روسيا ستتوسع في علاقاتها مع دول القارة الإفريقية بمختلف المجالات، سواء على المستوى الثنائي أو المستوى الجماعي، من خلال تحسين الحوار السياسي، وتكثيف التعاون الشامل، السياسي والتجاري والاقتصادي والعسكري والفني، وفي مجال التعاون الأمني، وكذلك التعاون في الشأن الإنساني والتعليمي، بما يخدم المصالح المشتركة، فضلًا عن الإسهام في تسوية الصراعات والأزمات الإقليمية، كما أن تعزيز علاقات الشراكة مع الاتحاد الإفريقي تعد بمثابة عنصر مهم في السياسة الروسية إزاء إفريقيا.
(*) مبدأ التعددية القطبية: في 31 مارس 2023، وقع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، مرسومًا ينص على المفهوم الجديد للسياسة الخارجية الروسية، التي تمثل الاستراتيجية الروسية الجديدة للسياسة الخارجية الروسية والأساس العقائدي لها، وتعد الوثيقة الحاكمة والمحددة والمفسرة للتحركات الروسية في المجال الخارجي.
وتضمنت الاستراتيجية إدراك روسيا لنفسها كأحد المراكز السيادية للتنمية العالمية، التي تؤدي مهمة تاريخية تهدف للحفاظ على توازن القوى العالمي وبناء نظام دولي متعدد الأقطاب، وإذا كانت الاستراتيجية حددت توجهات روسيا تجاه أقاليم العالم المختلفة، فإن إفريقيا بدت أحد أبرز مناطق العالم التي تلوح فيها فرص للانتشار الاستراتيجي لروسيا، إذ تتقاسم روسيا مع بعض دول القارة الإفريقية السعي نحو تحقيق عالم متعدد المراكز يكون أكثر إنصافًا وقادرًا على القضاء على التفاوت الاجتماعي والاقتصادي العالمي، الذي تزايد بسبب السياسات الاستعمارية بأشكال مختلفة.
لذلك تبنت روسيا تقديم مساعدات للدول الإفريقية في قطاعات الغذاء والطاقة والأمن والدفاع، مع زيادة التجارة والاستثمار، فضلًا عن تطوير الروابط في المجال الإنساني والتعاون العلمي، والدعم الطبي وتدريب الكوادر البشرية.
(*) منتدى الشراكة الروسية الإفريقية: يمثل المنتدى إحدى منصات الدور الروسي في إفريقيا، ويعد بمثابة الإطار المؤسسي لتعزيز الوجود الروسي في القارة السمراء، وجاء تدشين المنتدى كإحدى توصيات إعلان القمة الروسية الإفريقية الأولى، التي عقدت في سوتشي، أكتوبر 2019، الذي تضمن إنشاء آلية شراكة للحوار من أجل تنسيق تطوير العلاقات الروسية الإفريقية، على أن تكون قمة روسيا-إفريقيا بمثابة الهيئة العليا لهذا المنتدى، التي أقر بعقدها مرة واحدة كل ثلاث سنوات، على أن يتم إجراء مشاورات سنوية في الفترة ما بين انعقاد مؤتمرات القمة في روسيا على مستوى وزراء خارجية روسيا الاتحادية والدول الإفريقية الكائنة رئيسًا حاليًا أو سابقًا أو مستقبلًا للاتحاد الإفريقي "الترويكا الإفريقية".
(*) التعاون التنموي: تمتلك القارة الإفريقية العديد من الموارد التي جعلتها محط أنظار القوى الكبرى التي تسعى للتأثير في توجهات السياسة العالمية، منها روسيا الساعية لتعزيز مكانتها العالمية، من خلال التعاون التنموي مع دول القارة الإفريقية، إذ أسقطت ما يقرب من 20 مليار دولار، من الديون المستحقة على عدد من الدول الإفريقية، والاتجاه نحو الشراكة الاقتصادية معها لتحقيق منافع مشتركة، غير أن التبادل التجاري بين روسيا وإفريقيا لم يتجاوز 18 مليار دولار، خلال 2022، وفقًا للرئيس فلاديمير بوتين، في مقال نشر، 24 يوليو 2023، كرسالة للدول الإفريقية، بمناسبة انعقاد القمة الروسية الإفريقية الثانية، واعتبر أن الشراكة التجارية والاقتصادية أعلى من ذلك بكثير، إذ تولي الشركات الروسية اهتمامًا كبيرًا للعمل في القارة الإفريقية، ضمن مجالات عديدة من بينها مجال التقنيات الفائقة والاستكشاف الجيولوجي، وفي إطار مجمع الوقود والطاقة بما في ذلك الطاقة النووية وفي الصناعات الكيميائية وهندسة التعدين والنقل والزراعة والثروة السمكية.
ودعمًا للاستقرار السياسي في الدول الإفريقية، أشار بوتين إلى أن روسيا صدرت خلال عام 2022، 11.5 مليون طن من الحبوب إلى إفريقيا، وقامت في الأشهر الأولى من عام 2023 بتصدير ما يقرب من 10 ملايين طن أخرى، برغم القيود المفروضة على تصدير المنتجات الروسية إلى البلدان النامية وتعقد المسائل اللوجيستية كالنقل والمدفوعات المصرفية. وفي إطار تدريب الكوادر الوطنية للدول الإفريقية، يدرس في روسيا نحو 35000 طالب من القارة السمراء، من بينهم أكثر من 6000 طالب يدرس من خلال المنح الدراسية الروسية.
وبشكل عام تتنوع الاستثمارات الروسية في إفريقيا، إذ تمتلك شركة رينوفا الروسية استثمارات بمجال المعادن في كل من جنوب إفريقيا والجابون وموزمبيق بأكثر من مليار دولار، كما تستثمر شركة جازبروم في مشروعات للغاز وبناء الأنابيب والبنية التحتية بمبلغ 500 مليون دولار في مختلف الدول الإفريقية.
كما تركز روسيا على الاستثمار في مجال الطاقة والمعادن الثمينة مع دول إفريقيا جنوب الصحراء، وتعد جنوب إفريقيا من شركاء روسيا الاستراتيجيين، خاصة في مجال استخراج اليورانيوم وتوليد الطاقة، كما تعمل شركة "آر إن إكسبلوريشن" التي تتبع "روس نفط" في إنتاج الغاز شمالي موزمبيق وتقدر حجم الاحتياطات بنحو 2.2 تريليون متر مكعب.
تنافس دولي
تسعى روسيا لتعزيز شراكتها مع الدول الإفريقية، سواء بشكل جماعي من خلال المؤسسات الإفريقية، أبرزها الاتحاد الإفريقي أو من خلال التعاون الثنائي. غير أن التعاون الروسي الإفريقي يواجه العديد من التحديات أبرزها التنافس الدولي على إفريقيا الذي يتجلى في التوجهات التالية:
(&) استعادة النفوذ الأمريكي: سعت واشنطن لاستعادة نفوذها في القارة التي تم تجاهلها خلال فترة الرئيس دونالد ترامب، وتجلى ذلك الاهتمام في تعدد زيارة المسؤولين الأمريكيين إلى دول القارة، منهم قرينة الرئيس الأمريكي جيل بايدن ونائبة الرئيس كاميلا هاريس، ووزير الخارجية أنتوني بلينكن، وسفيرة الولايات المتحدة لدى الأمم المتحدة ليندا جرينفيلد. كما عُقدت القمة الأمريكية الإفريقية الثانية، ديسمبر 2022، التي استضافها الرئيس الأمريكي جو بايدن، في إطار الترويج للرؤية الأمريكية الجديدة لمستقبل إفريقيا، التي عبر عنها بايدن بتطلعه للعمل مع الحكومات الإفريقية والمجتمع المدني والقطاع الخاص ومجتمعات الشتات والمغتربين في جميع أنحاء الولايات الأمريكية، لمواصلة تعزيز رؤية مشتركة لمستقبل العلاقات بين الولايات المتحدة وإفريقيا، من خلال الارتكاز على القيم المشتركة لتعزيز المشاركة الاقتصادية الجديدة بشكل أفضل وتعزيز التزام الولايات المتحدة وإفريقيا بالديمقراطية وحقوق الإنسان والتخفيف من تداعيات الأوبئة.
كانت الولايات المتحدة أقرت في 2022، استراتيجية جديدة تجاه إفريقيا جنوب الصحراء، هدفت إلى تعزيز أولويات الولايات المتحدة في الدول الإفريقية جنوب الصحراء، وإعادة صياغة مكانة إفريقيا بالنسبة إلى مصالح الأمن القومي الأمريكي، خلال السنوات الـ5 المقبلة، إذ خصصت الولايات المتحدة الأمريكية 55 مليار دولار للقارة على مدى السنوات الثلاث المقبلة، فيما أعلن أنتوني بلينكن، تقديم 150 مليون دولار مساعدات إنسانية جديدة لمنطقة الساحل الإفريقي، خلال زيارته للنيجر مارس 2023.
(&) تنامي النفوذ الصيني: تعد الصين أكبر شريك تجاري لقارة إفريقيا، وهو ما تقره بيانات الهيئة الوطنية العامة للجمارك الصينية بأن التجارة بين الصين وإفريقيا وصلت 254.3 مليار دولار في 2021، بزيادة 35.3% على أساس سنوي، وصلت نحو 282 مليار دولار، خلال عام 2022 بزيادة قدرها نحو 11%؛ إذ بلغ حجم الصادرات الصينية إلى إفريقيا نحو 164.5 مليار دولار بزيادة سنوية قدرها 11.2%، بينما بلغ حجم الصادرات الإفريقية إلى الصين نحو 117.5 مليار دولار.
ومنذ تسعينيات القرن الماضي تعزز بكين تواجدها بإفريقيا الذي تصاعد بدءًا من عام 2013 مع إطلاق مبادرة الحزام والطريق، وتشير التقديرات إلى أن حجم الاستثمار الأجنبي الصيني المباشر في إفريقيا يصل 44 مليار دولار، كما تملك الصين نحو 12% من ديون الدول الإفريقية، التي تضاعفت أكثر من 5 مرات بين عامي 2000 و2020، لتصل نحو 696 مليار دولار. وتسعى الصين إلى توظيف علاقاتها الاقتصادية مع دول القارة الإفريقية، لتعظيم مكاسبها الاستراتيجية كقطب اقتصادي دولي يسعى إلى الوصول لقمة النظام الدولي.
لذلك تم تأطير تلك العلاقات بشكل مؤسسي، من خلال تدشين منتدى التعاون الصيني الإفريقي منذ عام 2000، الذي يعقد بشكل سنوي، لتعزيز الشراكة بين الجانبين في مجالات البنية الأساسية والصحة والتعليم والتنمية الاقتصادية والإنسانية، وهو ما عزز من الوجود الصيني في إفريقيا.
(&) التحديات الداخلية: تشكل التحديات الداخلية المرتبطة بروسيا إحدى المعضلات التي تواجه الوجود الروسي في إفريقيا، لا سيما في ظل ارتفاع تكلفة فاتورة الحرب الروسية الأوكرانية التي كبدت الاقتصاد الروسي العديد من الخسائر الاقتصادية والبشرية، وهو ما انعكس على محدودية التبادل التجاري بين روسيا والدول الإفريقية ليصل عام 2022 إلى ما يقرب من 18 مليار دولار فقط، في حين بلغ التبادل التجاري بين إفريقيا وكل من الصين وأوروبا والولايات المتحدة 282، و254، و83 مليار دولار على التوالي. كما أن الاستثمارات الروسية لا تمثل سوى 1% من إجمالي الاستثمارات العالمية الأخرى في إفريقيا.
أما التحديات الداخلية التي ترتبط بالداخل الإفريقي، فإن ثمة تيار وطني إفريقي يرفض أن تدخل القارة ضمن مسارات توازن القوى الدولي، ويرفض أيضًا التكالب الدولي على القارة، لا سيما وأن الخبرات الاستعمارية التي استغلت موارد القارة لا تزال ماثلة في الأذهان.
مجمل القول؛ أضحت القارة الإفريقية مجالًا أرحب للتنافس الدولي ما بين القوى الكبرى المتنافسة على قمة النظام الدولي والساعية لتعزيز أدوارها ومكانتها على مسرح السياسة الدولية، وفي مقدمتها روسيا والصين والولايات المتحدة الأمريكية، وهو ما يتطلب أن تتجه الدول الإفريقية نحو تقوية مؤسساتها الإقليمية وفي مقدمتها الاتحاد الإفريقي، وتعزيز تعاونها فيما بينها، لمواجهة تحديات الداخل الإفريقي وتقديم الحلول الإفريقية للمشكلات الإفريقية.