نحو 70 عامًا فقط كانت كافية لتتحول الصين إلى واحدة من القوى العظمى، بل والقوة الأكبر في وجه أمريكا، بعد أن كانت دولة معزولة.
مع الصعود الصيني زادت المخاوف الأمريكية، لتنشأ بينهما صراعات عدة، منها حرب الرقائق الإلكترونية، إذ حاولت أمريكا التصدي للصعود الصيني في هذا المجال، وهو ما ردّت عليه الصين بضربة قاتلة، إذ بدأت في فرض قيود على صادرات منتجات "الغاليوم" والجرمانيوم"، بدءًا من أول أغسطس المقبل.
الخامان اللذان قررت الصين فرض القيود بشأنهما تسيطر على جزء كبير من إنتاجهما عالميًا، وبحسب الجمعية الأوروبية لتحالف المواد الحرجة (CRMA)، تنتج الصين نحو 60% من الجرمانيوم في العالم، والباقي من كندا وفنلندا وروسيا والولايات المتحدة، ووصلت صادرات الصين من الجرمانيوم الخام والمشغول إلى 43.7 طن متري العام الماضي، وفقًا لبيانات الجمارك الصينية، أما الغاليوم، فتنتنج وحدها نحو 80% منه.
الخطوة الصينية تأتي في إطار الحرب التكنولوجية بين القوتين العظميين، وردًا على دراسة إدارة الرئيس الأمريكي جو بايدن، فرض حظر أوسع على رقائق أشباه الموصلات، وفرض قيود من قبل الإدارة الأمريكية على تصدير الرقائق الإلكترونية ومعداتها إلى الصين، وتشديد الإجراءات العقابية لتقييد مبيعات تكنولوجيا الرقائق الإلكترونية إلى الصين، في محاولة لإعاقة التقدم العسكري الحالي للجيش الصيني، بحسب "بي بي سي".
خطة بايدن الطموح
العام الماضي، أعلن الرئيس الأمريكي أن مستقبل صناعة الرقائق سيتم تشكيله في أمريكا، وأقر قانون الرقائق والعلوم الذي سمح بحوافز بقيمة 53 مليار دولار لتصنيع أشباه الموصلات في الولايات المتحدة الأمريكية، وهي صناعة تبلغ قيمتها 500 مليار دولار، ومن المتوقع أن تتضاعف في 2030، بحسب "بي بي سي".
تصنيع أشباه الموصلات أمر معقد وتم اختراعها في الولايات المتحدة، لكن مع مرور الوقت ظهر شرق آسيا كمركز تصنيع، بسبب الحوافز الحكومية والإعانات، ويتم تصنيع معظم شرائح العالم حاليًا في تايوان، وهو ما يجعل هذه الجزيرة محل صراع بين الصين وأمريكا.
السيطرة على سلاسل التوريد
قرار الصين أظهر بشكل لا لبس فيه هيمنتها على سلاسل التوريد العالمية للمعادن الضرورية لانتقال الطاقة، وما لم تتمكن الولايات المتحدة من "الكماشة"، فإن طموحاتها وحلفاءها في الابتكارات التكنولوجية المستقبلية قد تُولد "ميتة"، وأثار قرار بكين بحظر تصدير الغاليوم والجرمانيوم، مخاوف بشأن سلاسل التوريد الخاصة بالعناصر الأرضية النادرة، والتي تتمتع الصين بقبضة أكثر إحكامًا عليها، حيث تتحكم في أكثر من 90% من الناتج العالمي، بحسب تقرير "ناشيونال إنترست".
والمعادن التي أعلنت الصين فرض قيود على صادرتها، هي مكونات مهمة في مجموعة من التقنيات المتقدمة، بما فيها أشباه الموصلات، ويرى العاملون في قطاع الأعمال، أن ضوابط التصدير الصينية، سيكون لها تأثير مضاعف فوري على صناعة أشباه الموصلات.
تفاخر بايدن، بمستقبل أمريكا في صناعة الرقائق، يبدو أنه نسي خلاله اعتماد سلاسل التوريد على الصين، واعتقد أن الإعانات الحكومية وضوابط التصدير على التكنولوجيا المتقدمة، سترفع الصناعة الأمريكية إلى القمة، لكن "ثغرة مجنونة"، تمكن الشركات من الاستثمار في الصين لبناء ما يسمى بالرقائق القديمة، ما يظهر أن ضوابط التصدير التي تفرضها إدارة بايدن ضعيفة، وفي الوقت نفسه تظهر ضوابط الصين أنها لا تزال تملك الكثير من النفوذ، ولا تخشى استخدامه بحسب "ناشونال إنترست".
ورغم أن الابتكار في الولايات المتحدة مهم، لكنه لن يكون سببًا في جعل الاقتصاد الأمريكي أقل اعتمادًا على الصين، فإذا قاطعت الصين أمريكا، فستكون الولايات المتحدة تحت رحمتها، وستصبح كل المصانع والآلات المتطورة دون فائدة، بحسب التقرير.
ولا تكمن أهمية الغاليوم والجرمانيوم في تصنيع أشباه الموصلات فقط، بل هما مكونان أساسيان في أنظمة الأسلحة، وبالتالي ما الذي سيدفع زعماء الصين إلى السماح لمقاولي الدفاع الأمريكيين بالوصول إلى هذه المعادن في حالة حدوث مواجهة عسكرية، وهذا يعد "جرس إنذار لواشنطن".
ويقول ماركو روبيو، كبير أعضاء مجلس الشيوخ عن ولاية فلوريدا، في مقال منشور بـ"ناشونال إنترست": "تخيل الفوضى التي يمكن أن تلحقها بكين من خلال حرمان أمريكا من المكونات الصيدلانية أو ما قيمته 100 مليار دولار من الآلات الكهربائية التي نستوردها كل عام، لن تكون الولايات المتحدة آمنة حتى نتحرك للقضاء على نقاط الضعف هذه، وللقيام بذلك بشكل فعال، يجب على إدارة بايدن تجاوز المشاريع التي تركز على المنتج النهائي والبدء في تأمين سلاسل التوريد الهامة من البداية إلى النهاية، لا يمكن إنكار أن هذا سيكون أصعب من رمي الأموال على الشركات التي تعرضت للخطر من قبل الصين. ومع ذلك، فإن هذا هو ما يحتاجه الشعب الأمريكي ويستحقه إذا أراد أن يظل حرًا ومزدهرًا طوال القرن الحادي والعشرين".
مزيد من النفوذ في المحادثات
وعن مستقبل الصراع، قال بول تريولو، نائب الرئيس الأول وقائد سياسة التكنولوجيا في شركة الاستشارات "أولبرايت ستونبريدج"، التي تتخذ من واشنطن مقرًا لها، إن ضوابط التصدير تعطي لبكين -التي أوضحت للولايات المتحدة أنها مهتمة بإقامة حوار ثنائي جديد في شأنها- مزيداً من النفوذ في المحادثات المقبلة مع واشنطن.
في حين قالت المحامية التجارية نازاك نيكاختار التي كانت تشغل مناصب في السابق تتعلق بالأمن القومي وسلاسل توريد السلع في وزارة التجارة الأمريكية، إن ما فعلته الصين استعراض للقوة لتذكير الولايات المتحدة بمدى قوتها وتذكيرها بمدى سيطرتها على سلاسل التوريد الخاصة بها، بحسب "سي إن إن".
وأضافت أن أمريكا عليها اغتنام الفرصة لتذكير الصين بأن واشنطن يمكنها إغلاق الثغرات في قيود التصدير الحالية، وأن لديها القدرة على تطبيق العقوبات الاقتصادية.
اضطراب السوق العالمي
لا يمثل هذان المعدنان سوى مئات الملايين من الدولارات في التجارة العالمية، إلا إنهما يمثلان موارد استراتيجية مهمة، وأي اضطراب في المعروض من هذه المعادن من شأنه أن يزعج الأسواق النهائية التي تقدر قيمتها بتريليونات الدولارات، وعلى الرغم من نقاط الاختناق التي تواجهها سلسلة التوريد الخاصة بصناعة الرقائق، فإن الانقطاع المحتمل في توريد هذه المعادن الأساسية، يمكن أن يعوق تقدم الولايات المتحدة وحلفاءها في التصنيع المرتبط بالدفاع والتكنولوجيا الفائقة.
وتحكم استراتيجية الخنق، التي تعمل عمل تعزيز الاحتكار، ما يسمح للمحتكر سواء في التكنولوجيا أو الموارد، التأثير على خصومه دون حرب، وبالتالي فإن كل من القوتين العظميين تحاول فرض سيطرتها على الأخرى دون حرب.
وبحسب تقرير "ناشونال إنترست"، فمن غير المحتمل أن تؤدي قيود التصدير التي تفرضها الحكومة الصينية على هذا المعادن إلى خسائر اقتصادية كبيرة، إذ تستخدم الصين جزءا كبيرًا منها، إضافة إلى إمكانية تخزينها إلى أجل غير مسمى، ما يحول دون حدوث خسائر اقتصادية كبيرة، أما على الجانب الآخر تختلف تأثيرات ضوابط التصدير اليابانية على البلدان في تحالفات الرقائق التي تقودها الولايات المتحدة، وتتحمل اليابان العبء الأكبر، نظرًا لتركيزها العالي من الشركات التي تنتج مركبات كيميائية تحتوي على هذه العناصر.
ولا يمكن للولايات المتحدة وحلفائها بناء تقنيات ومرافق التكرير لمعالجة الغاليوم والجرمانيوم بين عشية وضحاها. فبعيدًا عن التكلفة المالية، فإن إنشاء سلسلة إمداد مستقلة يحتاج إلى سنوات، إن لم يكن عقودًا من التطوير.
وعلى الرغم من أن البعض قد يرى أن شركات الولايات المتحدة وحلفائها ستختار عدم العودة إلى شراء العنصرين من الصين، فإنه لا يجب استبعاد تأثير الحقائق الاقتصادية، التي غالبًا ما تؤثر في عملية صنع القرار في التجارة الدولية، وبالتالي فإن العلاقة بين التجارة والجغرافيا والسياسة معقدة، في وقت تلعب فيه العوامل الاقتصادية والتحالفات السياسية والاعتبارات الاستراتيجية أدوارًا محورية.