أجرى الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، جولة خليجية استمرت ثلاثة أيام "17-19 يوليو 2023"، شملت السعودية وقطر والإمارات، وتعد الأولى له منذ فوزه بالانتخابات الرئاسية، أواخر مايو الماضي، تأتي هذه الجولة لتعكس رغبة أردوغان في تحسين الأوضاع الاقتصادية والمعيشية السيئة التي تعيشها تركيا جراء تراجع قيمة الليرة وزيادة التضخم، بالعمل على جذب مزيد من الاستثمارات الأجنبية، خاصة الخليجية لدعم السياسات الاقتصادية التي يجريها في الوقت الراهن لإنعاش اقتصاد البلاد، وهو ما أكده خلال لقائه مع عدد من الصحف التركية قبل انطلاق الجولة، قائلًا: "خلال زيارتنا، ستتاح لنا الفرصة لمتابعة الدعم الذي ستقدمه هذه الدول لتركيا.. لقد أعربوا بالفعل عن استعدادهم لضخ استثمارات جادة في تركيا خلال اتصالاتي معهم السابقة. آمل أن يُحسم ذلك خلال هذه الزيارة".
مباحثات تركية خليجية:
في سياق ما تقدم، سيتم إلقاء الضوء على أبرز ما تناولته جولة "أردوغان" إلى الدول الخليجية الثلاث، على النحو التالي:
(*) التوقيع على اتفاقيات مشتركة مع السعودية: بدأ الرئيس التركي جولته بزيارة المملكة العربية السعودية، وتعد هذه الزيارة الثانية له إلى المملكة بعد المصالحة بين البلدين، إذ كانت الأولى في أواخر أبريل 2022، تلاها زيارة لولي العهد السعودي محمد بن سلمان، إلى تركيا في أواخر يونيو 2022، وخلال الزيارة الحالية عقد "أردوغان" مباحثات رسمية مع ولي العهد السعودي، في الديوان الملكي بقصر السلام في جدة، تناولت سبل تعزيز وتطوير العلاقات الثنائية بين البلدين في مختلف المجالات.
كما بحث الطرفان مستجدات الأوضاع على الصعيدين الإقليمي والدولي، وشارك "أردوغان" في فعاليات منتدى الأعمال السعودي التركي، بحضور مسؤولي البلدين، وهو ما تمخض عنه توقيع 9 اتفاقيات في مجالات الدفاع والاستثمار والطاقة والسياحة والنقل والاتصالات والتقنية والإعلام والعقارات وغيرها.
وكشف وزير الدفاع السعودي خالد بن سلمان، في تغريدة على حسابه الرسمي بموقع "تويتر"، أن المملكة وقعت على خطة لتعزيز التعاون الدفاعي مع تركيا، تناولت "إبرام عقدين مع شركة الصناعات الدفاعية التركية "بايكار" لشراء طائرات مسيّرة، بهدف رفع جاهزية القوات المسلحة وتعزيز قدرات المملكة الدفاعية والتصنيعية".
(*) استكمال زخم العلاقات التركية القطرية: كانت الدوحة المحطة الخليجية الثانية للرئيس "أردوغان"، وخلالها عقد الأخير مباحثات مع أمير قطر تميم بن حمد، تناولت سبل تعزيز العلاقات الثنائية بما يضمن رفع حجم التبادل التجاري وتطوير العلاقات الاقتصادية بينهما، للمضي قدمًا في تنفيذ ذلك، اتفق الطرفان على تكثيف عمل الفرق الفنية المشتركة في كلا البلدين لتحديد أوجه الفرص الاستثمارية ذات المنفعة المتبادلة، خاصة في مجالات السياحة والطاقة النظيفة وغيرها.
كما تبادل الطرفان وجهات النظر حول القضايا ذات الاهتمام المشترك، كما وقع وزيرا الخارجية القطري والتركي خلال الزيارة على البيان المشترك بين الدوحة وأنقرة بمناسبة مرور 50 عامًا على إقامة العلاقات الدبلوماسية القطرية – التركية التي شهدت تقدمًا وتطورًا خلال السنوات الأخيرة، إذ كانت أنقرة داعمًا رئيسيًا للدوحة منذ 2017، وفي المقابل، فإن قطر دعمت تركيا خاصة بعد محاولات الانقلاب الفاشلة في أنقرة عام 2016، الأمر الذي أسهم فيما بعد في بناء "شراكة استراتيجية" قوية تجمع البلدين.
(*) رفع مستوي الشراكة الاستراتيجية بين الإمارات وتركيا: اختتم "أردوغان" جولته الخليجية بالتوجه إلى دولة الإمارات، 19 يوليو الجاري، وتعد الثانية للرئيس التركي إلى الدولة الخليجية منذ عودة الدفء لعلاقات البلدين أواخر يونيو 2021، وإجراء الرئيس الإماراتي محمد بن زايد آل نهيان، نوفمبر 2021، حين كان يتولى منصب ولي عهد أبوظبي، زيارة إلى تركيا، وبعدها بأشهر قليلة، أجرى "أردوغان" زيارة إلى الإمارات، فبراير 2022، أسهمت في تعزيز العلاقات الثنائية بين البلدين.
وانعكس ذلك على الزيارة الحالية للرئيس التركي، التي بحث خلالها مع نظيره الإماراتي، سبل دفع التعاون الاقتصادي والتنموي بين البلدين إلى الإمام بما يعود بالنفع على شعبي البلدين وعلى الأمن والاستقرار بالمنطقة، وخلال هذه الزيارة قلد الرئيس الإماراتي نظيره التركي، "وسام زايد" الذي يعد أعلى وسام في دولة الإمارات. كما شهدت الزيارة، توقيع عدة اتفاقات ومذكرات تفاهم بقيمة 50.7 مليار دولار في عدة مجالات أبرزها الاقتصاد والصناعة والدفاع، وقال "أردوغان" في تغريدة على حسابه الرسمي بموقع "تويتر"، "سنرفع علاقاتنا إلى مستوى الشراكة الاستراتيجية عبر الاتفاقية المشتركة التي سنوقعها مع الإمارات".
أهداف الزيارة:
في ضوء المباحثات التي أجراها الرئيس التركي مع زعماء دول الخليج الثلاثة، يمكن القول إن الجولة الخليجية لـ"أردوغان" في هذا التوقيت تحمل جملة من الأهداف، يمكن توضيحها على هذا النحو:
(&) تعزيز حضور تركيا بالإقليم من بوابة الخليج: تكشف هذه الجولة رسالة مهمة مفادها، أن الرئيس "أردوغان" يحاول تغيير نهج سياساته في التعامل مع دول المنطقة العربية بما يضمن في المقام الأول تحقيق مصالح تركيا بعد أن أيقن "أردوغان" أن عليه إعادة النظر بل والقيام بعملية مراجعة لعلاقات بلاده مع دول الإقليم، وفقًا للشعار الذي رفعه، وينص على "زيادة عدد الأصدقاء وتقليل عدد الخصوم".
(&) حشد المزيد من الاستثمارات الخليجية إلى تركيا: يعد هذا من أبرز أهداف الجولة الخليجية لـ"أردوغان" الذي أوضح ذلك بشكل مباشر خلال تصريحات له مع وسائل الإعلام التركية، معلنًا أن حجم التبادل التجاري بين تركيا ودول الخليج ارتفع خلال السنوات الماضية من 1.6 مليار دولار إلى نحو 22 مليار دولار، مؤكدًا "سيتم بحث بل دفع هذا الرقم إلى أبعد من ذلك بكثير"، وهو ما حدث بالفعل، إذ إن مباحثات "أردوغان" في هذه الجولة انصبت بشكل رئيسي على إبرام اتفاقيات مع دول الخليج الثلاث في مختلف المجالات سواء الاقتصادية أو العسكرية وأيضًا السياسية والاجتماعية، الأمر الذي يؤكد رغبة الطرفين التركي والخليجي في رفع آفاق التعاون الاقتصادي المشترك فيما بينهم، ومساعدة أنقرة للخروج من أزمتها الاقتصادية، إضافة لذلك فقد كشف عدد من المسؤولين الأتراك لوكالة "رويترز"، أن تركيا تأمل أن تُسهم هذه الجولة في جذب استثمارات خليجية مباشرة، بقيمة 10 مليارات دولار واستثمارات أخرى تتراوح ما بين 25 و30 مليار دولار بشكل إجمالي على المدى البعيد.
إضافة إلى ذلك، فإن إهداء الرئيس التركي أول سيارة كهربائية محلية الصنع من نوع (توج) "TOGG" (أطلقها أردوغان في أبريل 2023) إلى كل من ولي العهد السعودي وأمير قطر ورئيس الإمارات، يحمل هدفًا تركيًا مُنصبًا على تعزيز التعاون بين أنقرة والدول الثلاث في مجال تصنيع هذا النوع من السيارات بدول الخليج، وهو ما سيسهم في رفع مستوى الاستثمارات المتبادلة.
(&) توسيع مجالات التعاون الدفاعي بين تركيا والخليج: تكمن أبرز الأهداف التي حملتها جولة "أردوغان"؛ في تعزيز التعاون الدفاعي مع أهم الدول النفطية بالعالم العربي، بشكل يسمح لشركات الدفاع التركية بالعودة للعمل على نطاق أوسع بالأسواق الخليجية، خاصة السعودية والإماراتية، وغزو هذه الأسواق بمختلف أنواع الأسلحة الجوية والبحرية وأنظمة الصواريخ المختلفة والطائرات المُسيّرة والمدرعات وغيرها، وهو ما يفسر سبب إبرام الرياض مع شركة "بايكار" التركية المصنعة للطائرة المُسيرة "بيرقدار" اتفاقية دفاعية هي الأكبر والأضخم في مجال الدفاع والطيران في تاريخ تركيا (وفق تصريح رئيس شركة "بايكار" هالو كبير قدار، لوكالة الأناضول التركية)، ونصت هذه الاتفاقية وفق ما أعلنه وزير الدفاع السعودي خالد بن سلمان، "إبرام عقد استحواذ بين وزارة الدفاع السعودية وشركة "بايكار" التركية للصناعات الدفاعية لتعزيز قدرات المملكة الدفاعية والهجومية"، وستحصل بموجبها المملكة على الطائرات المُسيّرة من نوع "بيرقدار أقينجي تيها" الهجومية "AKINCI TİHA" وهي أحدث أنواع المُسيّرات التركية من نوع بيرقدار.
(&) حلحلة الأزمات الإقليمية ذات الاهتمام المشترك: انصبت مباحثات أردوغان خلال هذه الجولة على مناقشة عدد من القضايا الإقليمية ذات الاهتمام المشترك، ولعل "الملف السوري" وقضية "إعادة اللاجئين السوريين" هو أكثر ما يقلق تركيا، التي تستضيف أكثر من 3.5 ملايين لاجئ سوري على أراضيها (وفقًا لإحصائيات وكالة رويترز 2023)، وقد كان هذا الملف محور أجندة "أردوغان" خلال الانتخابات الأخيرة، ووعد بتوفير الظروف المناسبة وإعادة اللاجئين السوريين، وفي ضوء ذلك، يريد الرئيس التركي من خلال هذه الجولة تكثيف وتوطيد أوجه التعاون مع دول الخليج، لتوفير الدعم اللازم للحكومة السورية لمساعدتها على تهيئة البلاد لاستعادة اللاجئين، وهو ما ترغب فيه تركيا بشدة خاصة بعد عودة سوريا لشغل مقعدها بجامعة الدول العربية، مايو الماضي.
تأسيسًا على ما سبق، يمكن القول إن الجولة الخليجية للرئيس التركي رجب طيب أردوغان، تأتي في خضم التطورات الجارية على الساحتين الإقليمية والدولية، أبرزها الحرب الروسية الأوكرانية التي أثرت سلبًا على اقتصاد عدد كبير من دول العالم، وعليه فإن هذه الجولة ستًسهم في تقوية عملية التقارب بين تركيا والخليج بما يخدم المصالح المشتركة لكليهما، فبالنسبة لتركيا فهي تريد الخليج لتحسين أوضاعها الاقتصادية، وفي المقابل فإن دول الخليج بحاجة لأنقرة لتعزيز قدراتها الدفاعية، بما يضمن التعاون المشترك لحلحة الأزمات الإقليمية وإحلال الأمن والاستقرار بالمنطقة وحفظ المصالح الاستراتيجية لكل من أنقرة ودول مجلس التعاون الخليجي.