الموقع الرسمي | القاهرة الاخبارية

التنافس التعاوني.. دلالات الاستراتيجية الألمانية الأولى بشأن الصين

  • مشاركة :
post-title
الصين وألمانيا

القاهرة الإخبارية - د. مبارك أحمد

كشفت ألمانيا في 13 يوليو 2023، استراتيجيتها الوطنية الأولى بشأن التعامل مع الصين، لتكون أكثر حزمًا، وفقًا لوصف المستشار الألماني أولاف شولتس، الذي برر طرح الاستراتيجية بتغير سياسات بكين، بما دفع ألمانيا إلى تغيير توجهاتها أيضًا إزاء الصين، للحفاظ على مصالحها الوطنية، معتبرًا أن الهدف ليس فصل الصين، وإنما تخفيض الاعتماد الحرج عليها مستقبلًا، كما وصفت أنالينا بيربوك، وزيرة الخارجية الألمانية، الصين بالمنافس الاستراتيجي الذي يجب تقليل الاعتماد عليه.

جاءت الاستراتيجية الألمانية، استكمالًا لإطلاق ألمانيا استراتيجيتها الجديدة للأمن القومي، في 14 يونيو 2023- أي بعد مرور شهر تقريبًا- إذ أضحى للتعامل الألماني مع الصين استراتيجية منفصلة، وربما يعود ذلك للأهمية الاقتصادية للصين في السياسة الألمانية، فضلًا عن اختلاف منظور مكونات الائتلاف الحاكم بشأن طبيعة العلاقة مع بكين.

توجهات جديدة:

اشتملت الاستراتيجية الألمانية الجديدة بشأن الصين على نهج جديد قائم على عدد من التوجهات الرئيسية يمكن الإشارة إلى أبرزها في العناصر التالية:

(*) رفض تغيير قواعد النظام الدولي: تضمنت الاستراتيجية رفض ألمانيا لسعي الصين لتغيير النظام الدولي الحالي "القائم على القواعد"، وما سيترتب عليه من تبعات على الأمن العالمي. واعتبرت ألمانيا أن الصين تضع مصالحها فوق مبادئ الأمم المتحدة، من خلال تغيير سياسات وبرامج الأمم المتحدة بمبادراتها الخاصة. تجدر الإشارة إلى أن الصين طرحت العديد من المبادرات أبرزها: "مبادرة الحزام والطريق، مبادرة الحضارة العالمية، مبادرة الأمن العالمي، ومبادرة التنمية العالمية".

(*) مواجهة تهديدات الأمن السيبراني: تطرقت الاستراتيجية الألمانية إلى التهديدات الصينية في المجال السيبراني، التي اعتبرتها تؤثر بشكل كبير على الشبكات الحكومية في أوروبا، وكانت ألمانيا طرحت ضمن استراتيجيتها الجديدة للأمن القومي التي أصدرتها في يونيو 2023، فكرة إنشاء مركز فيدرالي لمواجهة الهجمات السيبرانية، وبما يعزز من التعاون مع الاتحاد الأوروبي والشركاء في حلف الناتو، وهو ما سينعكس على تعزيز قدرات الدفاع السيبراني، لمواجهة الهجمات السيبرانية المحتملة على البنى التحتية الحيوية.

(*) دعم تايوان: برغم أن الاستراتيجية تبنت مبدأ الالتزام بسياسة "الصين الواحدة"، إلا إنها احتوت على استمرار النهج الألماني في دعم مشاركة تايوان في المنظمات الدولية، كما أقرت الاستراتيجية بأن ألمانيا ستواصل تعزيز وجودها العسكري وتعاونها مع شركائها في منطقة المحيطين الهندى والهادئ، محذرةً من أن تغيير الوضع القائم في مضيق تايوان لا يمكن أن يتم إلا بطرق سلمية وتوافقية. ويعكس مبدأ "الصين الواحدة"، تماشيًا مع الرؤية الأمريكية التي صاغت هذا المبدأ عقب زيارة الرئيس الأمريكي ريتشارد نيكسون، الصين، في 21 فبراير 1972، كأول رئيس أمريكي يزور الصين آنذاك، وهي الزيارة التي أنهت انقطاع دام أكثر من عقدين.

الرئيسان الصيني والروسي في موسكو - مارس 2023

(*) تداعيات الشراكة الصينية الروسية: تشير الاستراتيجية إلى أن قرار الصين بتوسيع علاقتها مع روسيا له تداعياته المباشرة والفورية على ألمانيا، كما أن دعم الصين لرواية موسكو بشأن الحرب الروسية الأوكرانية، يجعل بكين لا تتمتع بمصداقية في قضية الدفاع عن وحدة الأراضي الأوكرانية، لذلك تبنت الاستراتيجية مُطالبة الصين باتخاذ موقف أوضح بشأن الأزمة التي اندلعت في فبراير 2022.

(*) التعاون لمواجهة التغيرات المناخية: تعتبر الاستراتيجية أن التغيرات المناخية من القضايا ذات الأولوية في التعاون بين الصين وألمانيا، إلا إنها تشير إلى المخاوف الألمانية من توظيف الصين لمساعداتها في مجال المناخ كوسيلة لممارسة ضغوطها، بهدف تعزيز مصالحها في المجالات الأخرى.

حدود التغيير:

هناك العديد من التداعيات المرتبطة بتطبيق الاستراتيجية الألمانية الجديدة على أرض الواقع بما يجعل من تغيير السياسات القائمة ذات تكلفة عالية، للأسباب التالية:

(&) محورية الشراكة التجارية بين الصين وألمانيا: إذا كانت الصين تعد الشريك التجاري الأول لألمانيا في الوقت الراهن، فإن عملية الحد من الاعتماد عليها سيكون أمرًا بالغ الصعوبة، لا سيما وأن حجم التجارة الثنائية بين البلدين وصل 297.9 مليار دولار عام 2022، إذ يميل الميزان التجاري لصالح الصين بإجمالي صادرات صينية للسوق الألماني يصل نحو 190 مليار يورو، بفارق 84 مليار يورو، حسب المعهد الاقتصادي الألماني.

كما تشكل الإمدادات الصينية لألمانيا من المواد الخام عاملًا رئيسيًا تقوم عليه العديد من الصناعات، لا سيما في مجال الإلكترونيات، إذ سيؤدي تقليل الاعتماد على الصين في تلك المجالات إلى البحث عن شركاء جدد، لإمداد ألمانيا بتلك المواد، وبما سيؤدي إلى ارتفاع التكلفة، وتأخير وصول المنتجات في مواعيدها إلى الأسواق، بما سيؤدي إلى ارتباكها وارتفاع تكلفة إنتاجها.

(&) دور مجتمع الأعمال الألماني: تعد العلاقات الاقتصادية بين الصين وألمانيا أحد محركات النمو في ألمانيا، بما يجعل من الحد من اعتماد الصناعة الألمانية على الصين أمر يصعب تحقيقه. وبالتالي فإن ألمانيا سيصعب عليها استعداء الصين أو اتخاذ موقف أشد حزمًا تجاهها. وهو الأمر الذي طرحته مجلة بوليتيكو أخيرًا نقلًا عن هربرت ديس، الرئيس التنفيذي لشركة صناعة السيارات "فولكس فاجن"، في مقابلة معه: "إن الدرجة التي تمول بها الصين ازدهارنا يجري التقليل من شأنها إلى حد كبير"، مضيفًا أن قطاع السيارات يعتمد بشكل كبير على الصين، إذ يستحوذ السوق الصينية على واحدة من كل ثلاث سيارات تنتجها شركات صناعة السيارات الألمانية في الصين، "كما تدير الشركات أيضًا شبكة كبيرة من المصانع في الصين، أنتجت 4.3 مليون سيارة في عام 2021". يضاف إلى ذلك أن نحو 1.1 مليون وظيفة ألمانية، بنسبة 2.4% من إجمالي الوظائف، تعتمد بشكل مباشر على الاستهلاك الصيني، وفقًا لدراسة صادرة في يونيو 2023 عن المعهد الاقتصادي الألماني.

(&) التعاون الصيني الأمريكي: يشكل إعلان التعاون الأمريكي الصيني في المجالات الاقتصادية نهجًا ثابتًا في تصريحات مسؤولي البلدين، في ظل التشابك الاقتصادي والتداخل، بما جعل الحديث يدور عن أن فك الارتباط بين أكبر اقتصادين على المستوى العالمي سيكون له تداعياته السلبية على الاقتصاد العالمي ككل. وبالتالي فإن التوجه الألماني في الاستراتيجية الجديدة يتماشى مع الرؤية الأمريكية التي تدور حول الحد من الاعتماد على الصين دون فك الارتباط. وهو ما يعني تماثل الإدراك الغربي في تكلفة فك الارتباط مع التنين الصيني، الذي أضحى يستحوذ على ما يقرب من نصف الاستثمارات الأوروبية، التي تأتي إليه من ألمانيا.

قادة الائتلاف الحاكم في ألمانيا

(&) اختلاف منظور مكونات الائتلاف الحاكم: يشكل اختلاف منظور مكونات الائتلاف الحاكم بشأن التعامل مع الصين أحد التحديات التي تواجه تطبيق الاستراتيجية على أرض الواقع، وفي حين يرى حزب الخضر أن الصين عدو يجب التعامل معه على هذا الأساس، يرى المستشار الألماني والحزب الاشتراكي الديمقراطي، أهمية التعامل مع الصين لكن بحذر. وربما يعود ذلك الاختلاف إلى إصدار الاستراتيجية بعد ما يقرب من ثلاثة أشهر من النقاشات بين التيارات الرئيسية في ألمانيا والمؤثرين والمتأثرين بمضمون الاستراتيجية.

في النهاية يمكن القول، إن مفهوم التنافس التعاوني الذي صكه جوزيف ناي، أستاذ العلاقات الدولية في جامعة هارفارد، لوصف الحال بين الصين والولايات المتحدة - باعتباره من ناحية يجمع بين حقيقة التنافس في العلاقة بين البلدين من الناحية الاستراتيجية، والواقع الذي يغلب عليه التعاون المتصاعد في الآونة الأخيرة- يصلح لوصف علاقات ألمانيا مع الصين، التي تصفها الاستراتيجية الجديدة بالمنافس الاستراتيجي. وبرغم ذلك يبقى التعاون في مجالات التنمية الاقتصادية والتغيرات المناخية وحماية البيئة محركات حاكمة للتعاون بين البلدين.