لليوم الخامس على التوالي، تتواصل احتجاجات الغضب في فرنسا، بعد مقتل فتى يبلغ من العمر 17 عامًا، على يد شرطي في منطقة نانتير بضواحي العاصمة باريس.
وأثارت وفاة الفتى نائل، وهو من أصول جزائرية، اشتباكات مع عناصر الأمن، امتدت إلى مدن أخرى في جميع أنحاء البلاد، وأحيّت مشاعر الغضب وعدم الثقة في الشرطة الفرنسية.
وجاء مقتل الفتى نائل ليُحيي النقاش حول أوضاع الأحياء الشعبية في فرنسا، إذ تشير التقديرات إلى أن نحو 20 مليون شخص يعيشون في ضواحٍ موزعة على أكثر من 3300 بلدية، وفق ما ذكرت وكالة "أسوشيتد برس" الأمريكية.
في تلك الضواحي، تعيش العديد من عائلات المهاجرين العرب والأفارقة، والتي تنجب عادة العديد من الأطفال، الذين يحصلون تلقائيًا على الجنسية الفرنسية.
واحدة من تلك الضواحي الباريسية، تلك التي تحمل اسم" كليشي سو بوا"، وهى ضاحية فقيرة وفيها مشاكل كبيرة.
مواجهات 2005 في كليشي
وبرز اسم ضاحية "كليشي سو بوا" في أكتوبر 2005، حين شهدت مواجهات عنيفة وغير مسبوقة بين الشرطة ومتظاهرين شبان. وشملت حصيلة المواجهات أربعة قتلى، و217 جريحًا في صفوف الشرطة، و5 آلاف معتقل وحرق 10 آلاف سيارة وتدمير 500 مبنى.
وأمر الرئيس الفرنسي الأسبق نيكولا ساركوزي، والذي كان آنذاك وزيرًا للداخلية، أثناء المظاهرات، بأن يتم مكافحة من نعتهم "بالحثالة" باستخدام خراطيم المياه.
واستغنت حكومة ساركوزي عن عمل "شرطة الجيران"، التي كانت تتكون من أفراد شرطة من الحي نفسه، وبنت في كليشي مركزًا جديدًا للشرطة الحكومية. ويرحل عن هذه الضاحية كل من يسمح له دخله بالرحيل، أما من يبقى فيها فهم الفقراء.
سكان الضواحي يعانون الإهمال والتهميش والفقر
وكما هو الحال في كليشي، يعانى سكان الضواحي الباريسية الأخرى، من الإهمال والتهميش والفقر، وعدم السماح لهم بالإندماج في المجتمع الفرنسي. ويكافح العديد من شباب الضواحي من أجل الحصول على وظيفة.
وتقول جاكلين كوستا لاسكو، عالمة الاجتماع الفرنسية، إن المشكلة تكمن في عدم تقدير واحترام شبان الضواحي ورفض المجتمع الفرنسي لهم.
وتوضح فيرجني مارتن، أستاذة العلوم السياسية وعلم الاجتماع، في كلية "كيدج" للأعمال، أن تدفق السكان كان كبيرًا جدًا منذ نهاية الحرب الجزائرية، وهو ما أدى إلى بناء أحياء كاملة من دون تخطيط عمراني.
ويعاني شباب الضواحي الباريسية -الذين ينحدر معظمهم من إفريقيا- من ارتفاع معدل البطالة والفقر، وافتقارهم إلى الفرص الاقتصادية.
ووفق "مارتن"، فإن هذه الأحياء الممتدة على مساحات شاسعة تحولت إلى أماكن صعبة للغاية ومعزولة، يعاني سكانها الفقر.
واستثمرت الحكومات الفرنسية السابقة مليارات اليوروهات لتحسين أوضاع الأحياء الشعبية، من خلال تجديد العقارات السكنية وإنشاء الجمعيات، لكن تلك الجهود لم تؤت ثمارها، لأن دمج الشباب في مجال العمل والتدريب كان منعدمًا.
وفيما يعاني سكان الضواحي من التهميش، يشعرون أن شعار "حرية، مساواة، إخاء" لا ينطبق عليهم، كما ذكر الكاتب البريطاني أنتدرو هاسي، في تحليل نُشر بصحيفة الجارديان البريطانية.
ويقول "هاسي" إنه في نحو الثالثة صباحًا من يوم الجمعة أيقظه ما بدا وكأنه إطلاق نار، ومن النوافذ الخلفية لشقته في جنوب باريس، كان بإمكانه رؤية الكر والفر بين المحتجين والشرطة.
ونقل الكاتب عن بشير مقراني، الذي يعيش في شقة في أحد الأبراج الرمادية الفقيرة المطلة على حديقة صغيرة، قوله "إنها حرب.. إنها حرب علينا، نحن الناس الذين يعيشون في أماكن مثل هذه.. عمري الآن 40 عامًا، حاصل على الماجستير ورب أسرة، لكن طوال حياتي تعرضت للتمييز والإذلال، دائمًا من قبل الشرطة، لا يستطيع الناس تحمل المزيد ".
ويقول الكاتب إنه وسط كل هذه الفوضى، كان من الملاحظ أن مثيري الشغب لم يهاجموا مراكز الشرطة فحسب، بل هاجموا مباني البلديات ومكاتب الضرائب والمدارس، وأي مؤسسة عامة تابعة للجمهورية الفرنسية.
ويرى أن الغضب يتركز على كل ما تمثله الجمهورية الفرنسية، وشعارها الديمقراطي "الحرية والمساواة والإخاء". مرجعًا ذلك إلى أن جزءًا كبيرًا من السكان المهمشين في الضواحي يشعرون أن هذا الشعار وهذا النموذج للدولة الديمقراطية لا ينطبق عليهم ويخذلهم.
انتفاضة الضواحي
وأحداث العنف الحالية، التي تشهدها ضواحي باريس ومدن فرنسية أخرى، تعود بالدرجة الأولى إلى الحالة الاقتصادية المزرية فيها. وهذا ما يدفع إلى إعادة النظر في السياسات المتبعة هناك، بهدف الحد من مشكلة البطالة المتفشية في صفوف الشباب.
والتقت وكالة الصحافة الفرنسية عددًا من الشبان الغاضبين، وأكد قسم كبير منهم أنهم "يرتكبون هذه الأعمال تنفيسًا عن الغضب الناجم عن شعورهم بالظلم".
وبرأي سامي زغناني، أستاذ علم الاجتماع في جامعة "رين"، يجب النظر إلى أعمال العنف التي شهدتها فرنسا هذا الأسبوع من منظور الانتفاضة وليس أعمال الشغب.