يحتفل هنري كيسنجر، الذي يعتبر اسمه مرادفًا للدبلوماسية الأمريكية، بعيد ميلاده الـ100، اليوم السبت، بعد أن رسم الزمن خطوطه على وجه الثعلب العجوز، وسط نخبة من ساسة الولايات المتحدة، مع سجل حافل لعراب السياسة الأمريكية، من الانتصارات في محافل السياسة الدولية.
بداية من فتح الباب أمام الصين الشيوعية للتخطيط لإنهاء الحرب الفيتنامية، إلى دعم الحكام الذين كانوا مناهضين للسوفييت، دون أي اعتذار، كان لـ"كيسنجر" نفوذ مثل القليل من قبله أو بعده، إذ شغل منصب كبير الدبلوماسيين والمستشار الأمني لرئيسي الولايات المتحدة السابقين، ريتشارد نيكسون وجيرالد فورد.
يُمكن التعرف على "كيسنجر" على الفور من الوهلة الأولى؛ بسبب نظارته السميكة والرتابة الحادة في طريقة كلامه التي لم تفقد أبدًا لمسة من لغته الألمانية الأصلية، إذ صنفه الباحثون على أنه من أكثر وزراء الخارجية الأمريكان تأثيرًا في الخمسين سنة الأخيرة.
عُرف عراب السياسة الأمريكية ببعض تنبؤاته وآرائه التي كانت وستظل تثير الجدل، فمنذ قبوله التعامل مع الصين الشيوعية تعتبره بكين صديقًا ومحور العلاقات بين بكين وواشنطن، مرورًا بدوره في عملية السلام بين مصر وإسرائيل عام 1978 وتوقيع اتفاقية كامب ديفيد، ثم تنبؤه باندلاع الحرب الروسية الأوكرانية، لتنبؤه الأخير بوقوع صدام مُحتمل بين الصين وروسيا من جهة والولايات المتحدة من جهة أخرى خلال 10 أعوام.
بغض النظر عن بلوغه المائة من عمره، إلا أنه بما يملكه من خبرات على مدى عشر حكومات أمريكية، فإنه لا يزال واحدًا من أهم الساسة المؤثرين في السياسة العالمية.
وُلد كيسنجر باسم هينز ألفريد كيسنجر في فورث، بافاريا، ألمانيا في عام 1923 لعائلة من اليهود الألمان.
انتقل إلى بريطانيا مع عائلته خلال تولي النازية الحكم، ثم إلى نيويورك عام 1938، درس المحاسبة في جامعة نيويورك، إلا أنه أوقف عن الدراسة عام 1943، بعد أن قدم طلبًا لتجنيده في الجيش الأمريكي، بعد دخول الولايات المتحدة الحرب العالمية الثانية ضد هيتلر مع معسكر الحلفاء.
الحرب العالمية الثانية
بدأ خدمته العسكرية في ولاية كارولينا الشمالية، وتم توزيعه ضمن الفرقة 84 مشاة بحرية الأمريكية، وبسبب إجادته للغة الألمانية، التحق كيسنجر بالمخابرات الحربية، متطوعًا للقيام بمهام مخابراتية خطرة داخل الأراضي الألمانية خلال معركة الثغرة كادت تنهي حياته، ليصبح كيسنجر من المؤثرين في الحرب ضد هيتلر.
منحة جامعة هارفارد
حصل هينري كيسنجر على منحة دراسية من جامعة هارفرد عام 1950 ليحصل على درجة الماجستير، ومع حصوله على الدكتوراه في عام 1954، انضم إلى هيئة التدريس في قسم الحكومة والمركز الجديد للشؤون الدولية.
العمل السياسي
تولى كيسنجر عام 1955 منصب مستشار لمجلس تنسيق العمليات التابع لمجلس الأمن القومي الأمريكي، ليبدأ نجمه في اللمعان، ويضع بصمته على معظم السياسات الأمريكية الخارجية، إذ أصبح كيسنجر، الذي احتقره اليسار منذ فترة طويلة، في مكانة طيبة من التيار الرئيسي للحزب الديمقراطي.
بداية الرحلة من فيتنام
أصبح كيسنجر مستشار الأمن القومي الأمريكي عام 1969، في عهد الرئيس الأمريكي ريتشارد نيكسون، لاعبا دورًا عامًا في الوساطة بين الولايات المتحدة وفيتنام، عام 1975 من ثم إحلال السلام إبان اندلاع حرب فيتنام.
الثعلب والشرق الأوسط
ترك ثعلب السياسة الأمريكي بصمته على الشرق الأوسط، عام 1973 عندما كان وزيرًا لخارجية الولايات المحتدة، في إدارة ريتشارد نيكسون، ليلعب دورًا مهمًا في وقف إطلاق النار وعملية السلام بين مصر وإسرائيل، في حرب أكتوبر، وكذلك توقيع الطرفين على معاهدة كامب ديفيد عام 1978.
نيكسون وفورد
واصل كيسنجر استحواذه على حقيبة الخارجية الأمريكية، حتى بعد تنحي نيكسون عام 1974، وتولي جيراد فورد لرئاسة الولايات المتحدة.
الثعلب والصين
بعد تولي الحزب الشيوعي لمقاليد الحكم في الصين، لم تعترف الولايات المتحدة في البداية بهم، متمسكة بموقفها السياسي المعترف بتايوان كممثل شرعي لجمهورية الصين الشعبية، إلا أن الأمر لم يدم طويلًا، فقد وضع عراب السياسة الأمريكية بصمته، ليتغير الأمر عام 1971، بعد وصول الرئيس الأمريكي، ريتشارد نيكسون، بكين مع وزير خارجيته، إذ كان له دور بارز في إعادة العلاقات الأمريكية الصينية، من ثم الاعتراف بالصين وعضويتها في الأمم المتحدة.
وجه خفي للثعلب
بالرغم من لعب كيسنجر دورًا مهمًا في صنع السلام حول العالم، وحصوله على جائزة نوبل للسلام عام 1973، إلا أن أصابع اتهام عديدة اتجهت نحوه؛ بسبب حروب فيتنام، وضرب كامبوديا ولاجوس، ودعم الحروب الأهلية في أمريكا الجنوبية، بالإضافة إلى ضلوعه في مقتل عشرات الآلاف من البشر.
العراب مثير الجدل
يواصل عراب السياسة الأمريكية، بالرغم من بلوغه المئة عام، التغريد بتصريحات مثيرة للجدل في أهم القضايا الدولية، منها تصريحه حول الحرب الروسية الأوكرانية، حين كان مؤيدًا لإنهاء الصراع بتنازل أوكرانيا عن دونباس، مما أغضب الادارة الأوكرانية.
حرب عالمية ثالثة
كما أنه صرح بأن استمرار التوتر بين الصين وروسيا والولايات المتحدة، على غرار الحرب الباردة، سيجعل العالم يدخل في حرب عالمية ثالثة، لا رابح فيها والكل خاسر، محذرًا مرارًا وتكرارًا من ضرورة تجنب الصراع المتحمل.
كسينجر وزيلينسكي
تطرق كيسنجر في أحد لقاءاته إلى الرئيس الأوكراني الحالي، فولوديمير زيلينسكي، قائلًا "رئيس أوكرانيا شخصية غير متوقعة، فقد كان ممثلًا كوميديًا، تحوّل إلى بطل حرب، ولا شكَّ في أن زيلينسكي قد أدّى مهمة تاريخية، إنه يأتي من خلفية لم تظهر قط في القيادة الأوكرانية في أي فترة من التاريخ".
وتابع الثعلب العجوز "لقد كان زيلينسكي رئيسًا بالصدفة، بسبب الإحباط من السياسة الداخلية الأوكرانية، ثم واجه محاولة روسيا لإعادة أوكرانيا إلى التبعية الكاملة لها، لكن زيلينسكي تمكّن من حشد دولته، وساندها العالم بطريقة تاريخية، هذا هو إنجازه العظيم".
وواصل عراب السياسة الأمريكية "إلا أن السؤال البارز هو هل يُمكنه صنع السلام، خاصة السلام الذي ينطوي على بعض التضحية المحدودة؟".
الثعلب والدب
تحدث كيسنجر عن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، خاصة أنه التقى به مرات عديدة، أولاها في أوائل التسعينيات، عندما كان بوتين نائب عمدة مدينة سانت بطرسبورج، وقال "اعتقدت أنه محلل صاحب رؤية، ويرى أن روسيا عبر مراحل الزمن المختلفة، تمكّنت من التماسك، فقد جاء السويديون والفرنسيون والألمان لمحاولة غزو روسيا، وكان بعض ذلك عبر أوكرانيا، لكنهم جميعًا تعرضوا للهزيمة؛ لأنها أرهقتهم.. هذه هي وجهة نظر بوتين".
وتابع الثعلب رأيه حول الدب الروسي: مشكلة بوتين هي أنه رئيس دولة أخذت في التدهور، وفقد إحساسه في هذه الأزمة، وليس هناك أي عذر لما فعله "في إشارة إلى بدء الحرب في أوكرانيا".
عرين استشارات سياسية
وبعد مغادرته منصبه عام 1982، ظل الثعلب العجوز على مدى العقود الأربعة الماضية حاضرًا على الساحة، حيث يقدم "استشارات جيوسياسية" لعشرات من الزعماء والقادة والحكومات في مُختلف أنحاء العالم، دون الكشف عن أسمائهم، مُستغلًا خبرته وحنكته السياسية، وذلك من خلال شركته الاستشارية "كيسنجر أسوشيتس".
تحتفظ شركته للاستشارات بمكانة عالية نسبيًا مع النخب في واشنطن والخارج، بما في ذلك بين الديمقراطيين مثل وزيرة الخارجية السابقة هيلاري كلينتون، التي قالت ذات مرة إنها "تثق بنصيحة صديقها" في إشارة إلى هنري كيسنجر.
ثراء معرفي
ألف كيسنجر 17 كتابًا، معظمها يتعلق بالسياسة الخارجية، تشمل "الأسلحة النووية والسياسة الخارجية" (1957)، و"هل تحتاج أمريكا إلى سياسة خارجية؟: نحو دبلوماسية للقرن الحادي والعشرين" (2001)، و"عن الصين".(2011)
كما أن لديه أيضًا ثلاث مُذكرات: سنوات البيت الأبيض (1979)، سنوات من الاضطرابات (1982)، سنوات التجديد.(1999)وكان آخر إصدار له هو "النظام العالمي" في عام 2014، والذي نال إشادة من وزيرة الخارجية السابقة، هيلاري كلينتون.
وبعيدًا عن الكتب، يظل الثعلب العجوز كاتب رأي نشطًا، وتشمل الموضوعات التي تحدث عنها في السنوات الأخيرة وباء كورونا والذكاء الاصطناعي.
وأفادت تقارير إعلامية بأن ثروة كيسنجر الصافية تبلغ 50 مليون دولار، وذكرت مقالة في صحيفة نيويورك تايمز عام 1979 أن مذكراته كان من المُتوقع أن تجني 5 ملايين دولار، وقيل إنه المحاضر الأعلى أجرًا في الدائرة، وأخبرت المصادر الصحيفة أن راتبه المقدر بـ 400 ألف دولار أقل من قيمته الحقيقية.
وكشفت قصة منفصلة في نيويورك تايمز في عام 1978 أنه حصل على مليون دولار من قبل شبكة NBC من أجل استشارات مدتها خمس سنوات.