تنعقد وقائع الدورة العادية الثانية والثلاثين لمجلس جامعة الدول العربية على مستوى القمة في جدة بالمملكة العربية السعودية يوم الجمعة 19 مايو الجاري، إيذانًا ببدء رئاستها خلفًا لرئاسة الجزائر التي استضافة القمة الأخيرة في نوفمبر الماضي واهتمت بـ"لم الشمل" العربي وتوحيد الفصائل الفلسطينية.
بدأت الاجتماعات التحضيرية للقمة باجتماع المجلس الاقتصادي والاجتماعي على المستوى الوزاري يوم الاثنين 15 مايو، واجتماع المندوبين الدائمين بالجامعة وكبار المسؤولين يوم الثلاثاء 16 مايو، قبل انعقاد الاجتماع التحضيري لوزراء الخارجية العرب في 17 مايو الجاري.
وتكتسب القمة أهمية خاصة للدولة المضيفة في ظل تحركات الرياض لتسوية علاقاتها في الإقليم ابتداء بالتقارب مع إيران وصولًا إلى عودة العلاقات مع سوريا ودعوة الرئيس بشار الأسد لحضور القمة للمرة الأولى منذ غياب وفود بلاده عن فعاليات الجامعة.
دلالات مهمة
على الرغم من طبيعة الدورة الحالية للقمة العربية العادية، إلا أن الظروف المحيطة بمكان وتوقيت عقد القمة تشير إلى أهمية القمة الحالية وهو ما يمكن التدليل عليه على النحو التالي:
(*) توقيت القمة: سبقت القمة تحركات مصرية وسعودية وعربية واسعة لإرساء دعائم الاستقرار في منطقة الشرق الأوسط أهمها عودة الدفء للعلاقات العربية السورية، خاصة بعد كارثة زلزال 6 فبراير 2023 التي كان لها الدور الأبرز في تسريع وتنامي الإجماع العربي إزاء عودة دمشق للحاضنة العربية.
كما عقد اجتماع المجلس الوزاري برئاسة وزير الخارجية المصري سامح شكري، في 7 مايو الجاري وأسفر عن اتخاذ قرار باستئناف مشاركة الوفود السورية بفعاليات وأعمال الجامعة العربية، وتدشين مجموعة اتصال عربية بشأن السودان، وتأكيد وقوف الدول العربية إلى جانب الشعب الفلسطيني في مواجهة الاعتداءات الإسرائيلية ودعم حل الدولتين.
(*) مكان الانعقاد: يكتسب انعقاد القمة في جدة وليس العاصمة الرياض رمزية مهمة، حيث احتضنت المدينة فعاليات وقممًا عربية-الدولية منذ يوليو الماضي، أولها قمة جدة للأمن والتنمية بمشاركة قادة دول مجلس التعاون الخليجي ومصر والعراق والأردن إلى جانب الرئيس الأمريكي، وتضمنت التأكيد على وجود الولايات المتحدة إلى جانب شركائها العرب في المنطقة الذين أثنى على دورهم في حل مشكلاتها وضمان أمن واستقرار منطقة الشرق الأوسط.
ومنذ ذلك الاجتماع تحركت "مجموعة جدة" التي ضمت 9 دول عربية رئيسية في جهود حل أزمات المنطقة وقيادة جهود العمل العربي المشترك، وصولًا إلى اجتماع 14 أبريل بين وزراء خارجية الدول العربية التسع في جدة بشأن عودة سوريا لجامعة الدول العربية.
وانبثق عن تلك المجموعة، مجموعة رباعية هي السعودية ممثلة عن مجلس التعاون لدول الخليج العربية ومصر والعراق والأردن التي اجتمعت مع وزير الخارجية السوري فيصل المقداد 1 مايو الجاري لوضع خارطة طريق لحل الأزمة السورية وفق ثلاثة مسارات (إنساني وأمني وسياسي).
ملفات عالقة:
جاءت القمة العربية بالجزائر في نوفمبر 2022، بأجندة طموحة لإصلاح الأزمات العربية تحت عنوان "لم الشمل العربي" وتناولت قضايا عدة لا تزال تحتاج لنظر قادة الدول العربية وهي على النحو التالي:
(&) القضية الفلسطينية: أولت القيادة الجزائرية اهتمامًا بلعب دور في تحقيق المصالحة الوطنية الشاملة بين الفصائل الفلسطينية، ونجحت في جمع الرئيس محمود عباس أبو مازن برئيس المكتب السياسي لحركة حماس إسماعيل هنية.
وفي ضوء ذلك استعادة المملكة العربية السعودية اتصالها بحركة حماس باستضافة هنية ووفده المرافق منتصف أبريل الماضي، تزامنًا مع زيارة الرئيس الفلسطيني، فيما يبدو تطلع سعودي للتحرك بصورة أكبر في الملف الفلسطيني إلى جانب الجهود المتواصلة لمصر والأردن في هذا الصدد.
(&) معالجة الأزمات العربية: على الرغم من المساعي الحثيثة التي بذلها الرئيس الجزائري عبد المجيد تبون قبل القمة بلقاء الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي وقادة دول مجلس التعاون الخليجي، فضلًا عن جولات وزير الخارجية السابق رمطان لعمامرة المكوكية في المنطقة لإدراج بند عودة سوريا إلى جامعة الدول العربية، إلا أنها نجحت فقط في تحريك المواقف العربية واستكشفت فرص تحقيق الإجماع العربي حول تلك العودة، وهو ما تبنته القيادة السعودية قبل أسابيع من انطلاق قمة جدة باستعادة العلاقات مع سوريا وعودة حركة الطيران بين الرياض ودمشق، قبل أن توجه الدعوة للرئيس السوري لحضور القمة.
ويمكن القول إن قمة جدة تكتسب زخمًا استثنائيًا من جهود التنسيق العربي المشترك في الملف السوري من خلال إيجاد آلية لمشاركة القوى العربية في حل الأزمة في ضوء اجتماع عمّان مطلع مايو الجاري:
أولًا: البُعد الموضوعي: أشار اجتماع عمّان إلى مسارات التقدم في حل الأزمة السورية انطلاقًا من المسار الإنساني، ممثلًا في استمرار تدفق المساعدات الإنسانية والتعاون وتنسيق جهود تحسين الخدمات العامة بين الحكومة السورية والمؤسسات والمنظمات الأممية في مناطق استيعاب اللاجئين وذلك في إطار مشاريع التعافي المبكر بعد تحديد حجم المساهمات المطلوبة عربيًا ودوليًا ووفق إطار زمني محدد. ولفت البيان لأهمية تأمين العودة الطوعية والآمنة لهم انطلاقًا من الأردن بواقع 1000 لاجئ على أن تشمل في مرحلة لاحقة دولًا أخرى، كما تضمن الإشارة لتحسين أوضاع النازحين داخليًا في مخيم الركبان.
وفي المسار الأمني قدمت الدول رؤية لتفعيل الدور الإيجابي لسوريا في محيطها العربي والإقليمي عبر معالجة التهديدات الأمنية الناشئة في الأراضي السورية مثل مكافحة أنشطة التنظيمات الإرهابية والجماعات المسلحة وتتضمن الإجراءات تشكل فريقين أمنيين/سياسيين بين سوريا وكل من العراق والأردن كل على حدة للتصدي لجماعات تهريب المخدرات وتحديد الجهات التي تدير أنشطة الإنتاج والتهريب عبر الحدود. وفي سياق تأمين الحدود اتفق الأطراف على تدشين "آليات تنسيق فعّالة" بين الأجهزة الأمنية والعسكرية في سوريا ودول الجوار.
وعلى صعيد المسار السياسي مثلت دعوة وزير الخارجية السوري فيصل المقداد والتشديد على مركزية التنسيق والتعاون مع الحكومة السورية أمنيًا وسياسيًا إشارة مهمة لتوجه استراتيجي عربي لتثبيت الاستقرار وتسريع خطوات تسوية شاملة للأزمة استنادًا إلى المسار الأممي وإعادة تنشيط عمل اللجنة الدستورية. وحمل البيان الختامي التزامًا من الدول الأربعة بتجسير الفجوة بين دمشق والعواصم العربية والمجتمع الدولي برمته في ضوء التقدم المحرز في ملفات حل الأزمة.
ثانيًا: البُعد المؤسسي: أرسى الاجتماع التشاوري المنبثق عن مجموعة جدة التي شملت دول مجلس التعاون الخليجي وتمثلها السعودية إلى جانب مصر والأردن والعراق، وجود آلية مؤسسية عربية للمشاركة في تسوية الأزمة تعمل مع الجانب السوري وفق منهجية "خطوة مقابل خطوة" ويعمل وفق آلية تنسيق مشترك بين الدول الأربع من جهة والحكومة السورية من جهة أخرى لمتابعة التقدم في معالجة الأوضاع الإنسانية والشواغل الأمنية لدول الجوار، وصولًا إلى التسوية السياسية الشاملة وفق قرار مجلس الأمن 2254 والقرارات الأممية ذات الصلة. ونص البيان الختامي للاجتماع على تتابع اجتماعات الوزراء الخمس لبحث خريطة طريق التقدم في معالجة الأبعاد الثلاث الإنسانية والأمنية والسياسية، وتشكيل فريق فني على مستوى الخبراء لمتابعة تنفيذ مخرجات الاجتماع.
ومن مستجدات الأزمات التي لم تكن حاضرة في قمة الجزائر، الاشتباكات في السودان، إذ تمثل مجموعة الاتصال التي شكلها الاجتماع الوزاري في 7 مايو بقيادة مصر والسعودية أهمية كبرى في حلحلة الأزمة في ظل المفاوضات الإنسانية التي رعتها الرياض بالتعاون مع واشنطن وحظيت بتأييد القوى العربية الرئيسية المنخرطة في حل الأزمة.
وعلى صعيد الأزمات العربية في اليمن وليبيا، من الممكن أن تدعو الجامعة للتهدئة وتتولى عبر إحدى دولها جهود التوصل لاتفاق سياسي ينهي حالة الانقسام في تلك الدول وبناء مسار انتقال سياسي حقيقي يحفظ وحدتها الإقليمية، لكن امتلاك الجامعة دورًا وقائيًا في منع الأزمات قبل وقوعها أو تفاقمها ربما يتطلب إيفاد مبعوث خاص يعمل على تقريب وجهات النظر بين الفرقاء الوطنيين والتنسيق مع القوى العربية الرئيسية.
(&) تعزيز الاستجابة الجماعية لمواجهة تحديات الأمن الغذائي: على رأس القضايا التي تبنتها قمة الجزائر والموجود بصفة دائمة على الأجندة العربية تحقيق التكامل الاقتصادي والتنموي وتعزيز استجابة جماعية لمواجهة التحديات التنموية وعلى رأسها تحقيق الأمن الغذائي العربي، باعتباره إحدى الأولويات الملحة لتحقيق التنمية الاقتصادية وتكامل مساراتها بين الدول العربية.
وإجمالًا؛ تصدرت القضيتان الفلسطينية والسورية أجندة القمة العربية بالجزائر، التي سعت لتعميق الدور العربي في معالجة أزمات المنطقة، ويعزز زخم التحركات العربية السابقة على انعقاد قمة جدة من جهود تحريك تلك الملفات في إطار مخرج أهم يتمثل في تبلور قوة تنسيق عربية باتت تضطلع بدور مهم في حل أزمات المنطقة وتقريب وجهات النظر بين الأشقاء وتفعيل دور الجامعة العربية كإطار جامع يجتمع تحت لواء حل الأزمات العربية العالقة.