عكست جلسة افتتاح الحوار الوطني المصري، يوم الأربعاء 3 مايو 2023، برعاية الرئيس عبد الفتاح السيسي جملة من المحددات المشتركة التي توافق عليها الطيف السياسي المصري بكافة أشكاله، وهي الالتفاف حول منصة الحوار كوسيلة فعالة لمواجهة تحديات الأزمة العالمية الراهنة، وتحديد أولويات العمل الوطني في ضوء الالتزام باستكمال مسار بناء الدولة المدنية الحديثة.
كما توافق الحضور على الحوار في ظل الدستور الذي توافقت عليه إرادة الأمة المصرية، وتفعيل مواده ووضع خارطة طريق لمستقبل الأجيال القادمة استرشادًا بما ورد في رؤية مصر 2030، والمساهمة في تطويرها إلى رؤية 2050.
أولويات وطنية:
أبرزت كلمة الرئيس المصري جوانب دعوته للحوار باعتباره آلية راسخة في الجمهورية الجديدة، تظهر من ثراء مصر بالكفاءات البشرية والإمكانات التي تتيح لها استشراف بدائل متعددة تحقق أهداف التقدم والنمو في كافة المجالات، وهو ما يمكن رؤيته على النحو التالي:
(*) الدولة المدنية الحديثة: يمثل بناء دولة ديمقراطية مدنية حديثة، الغاية الرئيسية التي أكد عليها الرئيس في دعوته للحوار الوطني في حفل إفطار الأسرة المصرية 26 أبريل 2022، وأعاد التأكيد عليها في افتتاح الحوار 3 مايو 2023، وتتمثل الدوافع وراء تلك الدعوة في ذلك التوقيت في اجتياز الدولة المصرية مرحلة تثبيت أركانها ومؤسساتها بعد ثورة 30 يونيو 2013 والقضاء على بؤر الإرهاب، حيث تزامنت مع الدعوة تأكيد الرئيس المصري على قرب إعلان خلو سيناء من الإرهاب، وهو ما تبلور لاحقًا في تفقد الرئيس لقيادة قوات شرق القناة في 1 أبريل 2023 خلال ذكرى انتصارات العاشر من رمضان. وثاني تلك الدوافع في مواجهات تحديات الأزمة الاقتصادية العالمية جراء الحرب الروسية الأوكرانية، وما تلاها من تداعيات اقتصادية أثرت على العالم بأكمله، التي عززت من الحاجة إلى إجراء حوار وطني شامل.
(*) التعددية أساس لنجاح الحوار: قدمت كلمة الرئيس سمات واضحة لما تراه القيادة السياسية من مسؤولية مشتركة في إنجاح الحوار، منها أن يكون الحوار شاملًا لكافة المجالات وفعالًا وحيويًا يعمل على اقتحام المشكلات التي يواجهها الشعب المصري، ويعبر عن تعددية حقيقة في الآراء التي تضمن جودة وكفاءة المخرجات مبرزًا أن "اختلاف الآراء لا يفسد للوطن قضية"، مقابل التزام الدولة بتوفير كافة السبل لتفعيل مخرجات الحوار عبر المتابعة الدورية للقيادة السياسية وتوجيه الحكومة بإعداد مقترحات تشريعية أو اتخاذ قرارات تنفيذية لتفعيل المخرجات الجادة منها.
وقدمت الرئاسة المصرية دلالة واضحة على التزامها بذلك التوجه، إذ وجه الرئيس السيسي في 27 مارس 2023، الحكومة وكافة أجهزة الدولة المعنية بدراسة اقتراح تعديل تشريعي في نص المادة 34 من قانون الهيئة الوطنية للانتخابات يسمح باستمرار الإشراف القضائي الكامل على الانتخابات لما بعد 10 سنوات من إقرار الدستور والذي ينتهي بأجل 17 يناير 2024 وفقًا للدستور.
منطلقات متقاربة:
أفردت الجلسات الافتتاحية للحوار الوطني عرض أجندة عمل مجلس الأمناء واللجان الفرعية في المحاور الثلاث السياسي والاقتصادي والاجتماعي، حسب كلمات المنسق العام ضياء رشوان ورئيس الأمانة الفنية المستشار محمود فوزي.
(#) الانفتاح على الحوار: أظهرت كلمة المنسق العام، مكاشفة حول مرحلة الإعداد للحوار التي امتدت لعام كامل لتهيئة المناخ الملائم لبدء حوار فعال وشامل أمام كافة القوى والتيارات السياسية والمجتمعية الممثلة بدون خطوط حمراء في إطار التزام واضح بدستور 2014 كمرجعية متوافق عليها، ولم يستثن الحوار كذلك سوى فئتين ممن ساهم في ممارسة العنف أو هدد به وكذلك من يرفض الالتزام بأحكام الدستور الذي توافقت عليه إرادة الأمة المصرية.
وتمثل أهمية مرحلة الإعداد للحوار بتوفير ضمانات هامة هيأت المناخ لانطلاقه بحضور أحزاب المعارضة في الحركة المدنية الديمقراطية منها تفعيل عمل لجنة العفو الرئاسي والإفراج عن عشرات المحبوسين.
(#) الاعتراف بالاختلافات: كان التركيز على اتخاذ الحوار كآلية لحلحلة الأزمات وبناء جسور الثقة بين عناصر الطيف السياسي والمجتمعي المصري، محط تركيز من مختلف المتحدثين بداية من رموز ونخب مصر الذين عرضوا الخطوط العريضة لرؤاهم حول سير الحوار وشواغلهم الرئيسية التي ستؤثر على سير الجلسات، ومنها تأكيد رئيس لجنة الخمسين ووزير الخارجية الأسبق عمرو موسى والمستشار السياسي للحوار حسام بدراوي على أهمية الالتزام بما ورد في الدستور المصري، وتفعيل مواده كافة التي تؤكد على بناء دولة مدنية حديثة، كما اتفق بدراوي وموسى وقادة الأحزاب السياسية كافة على أهمية انفتاح المجال العام أمام تعدد الآراء وحرية الممارسة السياسية في إطار الدستور والقانون، في دعوة موجهة بالأساس لبعض وسائل الإعلام وبعض الأحزاب التي تتشكك من تلك الآراء.
كما تشير كلمة المنسق العام إلى أهمية احترام العملية الحوارية الجارية وانتظار تحقيق نتائجها التي قد تظهر مع انتهاء الحوار في مدى زمني قد يستغرق أسابيع أو شهور.
(#) تطلعات اقتصادية: على الرغم من طغيان الجانب السياسي على أعمال اليوم الافتتاحي، إلا أن الجانب الاقتصادي يظل المكون الأهم في أعمدة الحوار في ظل تشابك الرأي العام مع انطلاق الحوار والمساهمات الواسعة التي ظهرت من المشاركات والمقترحات المقدمة لأمانة الحوار، حيث تصدرت المقترحات الاقتصادية اهتمامات المشاركين بنسبة 38%، يليها المقترحات الاجتماعية بنسبة 34%، ثم المقترحات السياسية بنسبة 29%.
ويبرز في ذلك الإطار تخوفات النخبة والشعب من تبعات الأزمة العالمية على الوضع الاقتصادي، في ظل الاهتمام الملحوظ بلجنتي الاستثمار المباشر والعدالة الاجتماعية ضمن لجان المحور الاقتصادي.
(#) ضمانات ضرورية: يوحي مشهد الجلسات الافتتاحية للحوار الوطني بمطالبات بعض أحزاب المعارضة لوجود ضمانات تسهم في نجاح الحوار، وترتبط تلك الرؤية بميراث سابق من غياب الثقة وفترات سابقة عانت فيها البلاد من تحديات أمنية على غرار مكافحة الإرهاب.
إلا أن ضمانات الحوار تبدو غالبة على التخوفات في ظل وجود تجربة جديدة من الحوار الوطني غير المحدود بسقف أو حد سوى الدستور والرقابة الشعبية على مختلف المشاركين في الحوار في ظل البث المباشر والعلني لجلسات الحوار، والأهم من ذلك الإرادة السياسية الداعية لإجراء الحوار والداعمة لتحول مخرجاته الفعالة إلى مشروعات قوانين وقرارات تنفيذية في ظل إطلاع الرئيس على مجريات الحوار واعتزامه حضور مراحله النهائية.
وتأسيسًا على ما سبق؛ يظهر المشهد العام للحوار درجة من الحيوية التي اتسمت بها مداخلات رموز سياسية وحزبية وحرص على ترسيخ نموذج دولة مدنية حديثة اتسقت فيها رؤية القيادة السياسية مع المشاركين في جلسات الافتتاح، كما أن تعدد قضايا الحوار وتنوع التوجهات والرؤى يعد محفزًا على اهتمام الأوساط الشعبية بالتفاعل مع مجرياته على صعيدي المشاركة أو الرقابة إيمانًا بمصداقيته وجدواه. وفيما قدمت القيادة السياسية ضمانًا بإنجاح الحوار واهتمامًا بتفعيل المخرجات الجادة منه، تظل قدرة "مؤسسة الحوار الوطني" بمجلس أمنائها وجهاز أمانتها الفنية وممثلي القوى السياسية والمجتمعية المشاركة على إدارة ذلك التنوع واحترام الاختلاف هي المحدد الأبرز لترسيخ "حالة الحوار" واتخاذها كآلية لتسوية الخلافات وإنضاج تجربة ديمقراطية تحمل طابعًا مصريًا خالصًا، في إطار التطلعات لبناء جمهورية جديدة تليق بعراقة مصر وتاريخها.