لا تزال تداعيات كارثة إفلاس عدد من البنوك الأمريكية، في مارس الماضي، تلقي بظلالها بشكل كبير على اقتصاد الولايات المتحدة أحد أكبر الاقتصاديات العالمية.
وعلى الرغم من أن إفلاس بنك "سيليكون فالي" كان بمثابة "انفجار اقتصادي" بحسب تعبير الخبراء، ما نتج عنه ناقوس خطر استدعي تدخل الحكومة الفيدرالية للحد من الأزمة وضمان حقوق المودعين في البنك، إلا أن الأزمة طالت نحو خمسة بنوك أخرى واجهت نفس السيناريو "الإفلاس"، الأمر الذي استدعي تبني سياسات جديدة من البنك الفيدرالي الأمريكي، وتحديدًا، خلال المرحلة المقبلة، وخاصة أن اجتماع الفيدرالي الأمريكي المقرر عقده يومي 2 و3 مايو المقبل، من المرجح أن يتخذ فيه خطوة لرفع جديد للفائدة البنكية للمرة السادسة، الأمر الذي يستدعي وجود استراتيجية قوية للحد من خطر إفلاس البنوك، وكذلك مواجهة خطر الركود الاقتصادي الذي تحاول واشنطن الحد من آثاره بكافة السبل.
روشتة فيدرالية وقواعد مصرفية جديدة
دعا الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي إلى تجديد مجموعة من القواعد المصرفية للبنوك متوسطة الحجم، بهدف تجنب المشكلات التي أدت إلى انهيار "بنك سيليكون فالي".
وأوضح مايكل بار، نائب رئيس مجلس الاحتياطي الفيدرالي للرقابة، أن المشرفين لم يقدروا تمامًا حجم نقاط الضعف في القطاع المصرفي مع بدء تعقد مشكلة "سيليكون فالي"، إذ إن الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي عندما تأكد من حدوث بعض التعقيدات في أعمال "سيليكون فالي" لم يتخذ الخطوات الكافية لضمان قيام المصرف بإصلاح تلك المشكلات بالسرعة الكافية، مرجعًا ذلك أيضًا إلى هيكلية البنك الفيدرالي البيروقراطية.
إعادة تقييم
ودعا "بار"، خلال حديثه إلى صحيفة "وول ستريت جورنال"، إلى تجديد مجموعة من القواعد التي تطبق على البنوك التي تزيد أصولها على 100 مليار دولار، مع إعادة تقييم لكيفية تعامل المنظمين مع الودائع التي تتجاوز حد التأمين الفيدرالي البالغ 250 ألف دولار.
قصور في الإشراف المصرفي
وأضاف نائب رئيس مجلس الاحتياطي الفيدرالي للرقابة، أن بنكي "سيليكون فالي" و"سيجنتشير"، يعدان من أكثر البنوك الأمريكية التي واجهت خطر الإفلاس خلال الأشهر الماضية، وكانا يمتلكان كمية كبيرة من الودائع المالية، ما أدى إلى ظهور المشكلة بسرعة، ومن بين أهم استنتاجات "بار" بشأن أسباب انهيار "سيليكون فالي"، القصور الملحوظ في الإشراف المصرفي للاحتياطي الفيدرالي.
وقال "بار" إن الأخطاء التي ارتكبها منظمو الاحتياطي الفيدرالي كانت مدفوعة جزئيًا بالتغييرات التي خففت بشكل عام القواعد على البنوك متوسطة الحجم، وتابع أن هذه التغييرات "أعاقت الإشراف الفعال عن طريق تقليل المعايير وزيادة التعقيد وتعزيز نهج إشرافي أقل حزمًا".
سياسة التشدد
أدت سياسة التشديد النقدي من خلال رفع أسعار الفائدة لكبح التضخم إلى إحداث زلزال قوي في القطاع المصرفي الأمريكي، إلا أن هذه الخطوة كان الدافع منها تقليل الركود الاقتصادي الذي تواجهه الولايات المتحدة، وقد أدى رفع الفائدة المصرفية، بالإضافة إلى خفض أسعار الطاقة إلى الحد من التضخم خلال شهر مارس الماضي، وفق ما نقله تقرير لوكالة "فرانس برس"، لكن هذا الانخفاض ربما لا يكون كافيًا لمنع الاحتياطي الفيدرالي من اتخاذ خطوة رفع معدلات الفائدة للمرة السادسة، خلال اجتماعه مايو المقبل.
ووفق بيان وزارة التجارة الأمريكية، فإن مؤشر أسعار نفقات الاستهلاك الشخصي "بي سي آي" أوضح أن التضخم في الولايات المتحدة وصل لـ4.2% خلال شهر مارس، في تراجع كبير عن شهر فبراير الذي وصل التضخم فيه لـ5.1%، كما تباطأ ارتفاع الأسعار أيضا وبلغ 0.1%، لكن التضخم الأساسي الذي لا يشمل أسعار المواد الغذائية والطاقة ويشكل البيانات التي يراقبها الاحتياطي الفيدرالي، سجل انخفاضًا بدرجة أقل هي 4.6% خلال عام واحد، على أساس سنوي، مقابل 4.7% في الشهر السابق، وخلال شهر واحد بلغ التضخم الأساسي 0.3% أي كما كان في فبراير الماضي.
تباطؤ التضخم "غير كافٍ"
ونقلت "وول ستريت جورنال" عن روبيلا فاروقي، كبيرة الاقتصاديين في مجموعة "اتش اف إي"، أن التضخم الأساسي يتباطأ بشكل طفيف لكنه لا يزال أعلى بكثير من النسبة المستهدفة التي حددها الاحتياطي الفيدرالي، معتبرة أن مسار الشهر الماضي غير كافٍ. ويسعي الاحتياطي الفيدرالي، إلى إعادة التضخم إلى نسبته المستهدفة وهي نحو 2% على أساس سنوي.
وحتى الآن، كان ارتفاع الأسعار في الولايات المتحدة، مدفوعًا بشكل رئيسي بالصدمات الاقتصادية الخارجية، وتأثيرها على المواد الخام والمواد الغذائية، وكان للطاقة تأثير مباشر على الارتفاع الشامل، لكن الأمر لم يعد الأمر كذلك، فقد انخفضت أسعار الطاقة بنسبة 10% تقريبًا في مارس وتباطأ ارتفاع أسعار المواد الغذائية بشكل حاد ليبلغ 8% خلال عام واحد، وبشكل عام، عادت أسعار المنتجات إلى المستويات المقبولة بزيادة نسبتها نحو 1.6% على مدى عام واحد.
ويتركز التضخم في الولايات المتحدة، حاليا، على قطاع الخدمات الذي ما زالت أسعاره تشهد تضخمًا بنسبة 5.5% مع تباطؤ طفيف عن شهر مارس، وكانت 5.8%.
توقعات برفع جديد لأسعار الفائدة
وكل ذلك ما سبق يشجع الاحتياطي الفيدرالي، الذي ستجتمع لجنته النقدية الأسبوع المقبل، إلى مواصلة رفع أسعار الفائدة التي تبلغ حاليا بين 4.75% و5%، مقابل ما دون الصفر و0.25 % منذ أكثر من عام بقليل، وتتوقع الأسواق ارتفاعًا إضافيًا في الأسعار الرئيسية بمقدار 0.25 نقطة مئوية.
ونقلت "فرانس برس" عن لوك بارثولوميو، كبير الاقتصاديين، ومدير الاستثمارات في مؤسسة "ابردين لإدارة الاستثمارات": "نعتقد أن رفع سعر الفائدة الأسبوع المقبل سيمثل أعلى نقطة في دورة التضييق هذه"، موضحًا أن الاحتياطي الفيدرالي قد يحتاج إلى بعض الوقت لتقييم تأثير سياسات التشدد الاقتصادي التي طبقها خلال الـ18 شهرًا الماضية.
تباطؤ الركود
تباطؤ النمو رغم قوة سوق العمل
بعد أن أصبحت معدلات الفائدة في الولايات المتحدة، أكبر من نسبة التضخم، يدخل الاحتياطي الفيدرالي مرحلة جديدة هي مرحلة التشديد النقدي الفعلي الذي قد يكون له تأثير أكبر على الاقتصاد، ورغم قوة سوق العمل الأمريكي، إذ بلغ معدل البطالة الحالي نحو 3.5%، إلا أن الاقتصاد الأمريكي تباطأ في الربع الأول من العام، ونما بنسبة 1.1% بوتيرة سنوية هي الأدنى منذ الانتعاش الذي حدث بعد وباء "كورونا".
أصعب نهاية عام مع التضخم المعمم
ويتوقع معظم المحللين أن تشهد الولايات المتحدة أصعب نهاية عام مع نمو ضعيف وحتى ركود في الفصلين المقبلين، ولا سيما بسبب تشديد شروط الائتمان، وفق ما نقلته "وول ستريت جورنال"، ويخشى الاحتياطي الفيدرالي حدوث ما يسمى بـ"تضخم معمم في الاقتصاد"، بحسب قول ليزا كوك، العضو في مجلس حكام الاحتياطي الفيدرالي، في 21 أبريل، التي أشارت إلى أن مختلف مقاييس التضخم "انخفضت عن مستوياتها المرتفعة، إلا أنها بقيت مرتفعة، ما يشير إلى تضخم معمم"، وأضافت "كوك" أن "السؤال الكبير هو ما إذا كان التضخم سيستمر في تراجعه وبأي سرعة؟"