أثار مثول الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب، أمام المحكمة الجنائية في مانهاتن بولاية نيويورك فى 3 أبريل 2023، تساؤلاً رئيسيا حول حدود تأثير الملاحقات القضائية على تماسك الظاهرة الترامبية، لاسيما وأنها المرة الأولى في التاريخ الأمريكي التى يسلم فيها رئيس سابق نفسه للقضاء ليواجه تهمًا جنائية. وقد تشكلت الظاهرة الترامبية منذ أن سعى ترامب لنيل ثقة الحزب الجمهوري، لخوض السباق الانتخابي الرئاسي عام 2016 باعتباره قادمًا من خارج المؤسسات الأمريكية التقليدية المعنية بإنتاج وتأهيل النخب السياسية الحاكمة، وقد تبنى العديد من التوجهات والأفكار التى شكلت الإطار الفكرى للظاهرة التى اعتقد البعض بأنها كانت فى اتجاهها نحو الخفوت النسبي بعد اقتحام أنصاره لمبنى الكابيتول فى 6 يناير 2021 سعيًا لمنع المصادقة على فوز جو بايدن، بما جعل الأمريكيين يشعرون بالخطر من الفوضي وتقويض أسس النظام الديمقراطي، إلا أن محاكمة ترامب فى قضية أموال الصمت، جعلت البعض يرون أنها مثلت فرصة مواتية لإعادة إحياء الظاهرة الترامبية من جديد، فى ظل أن ترامب والترامبية أصبحا إحدى معادلات السياسة الأمريكية.
أمة فى خطر:
وجه المدعي العام لمنطقة مانهاتن ألفين براج لائحة اتهام بها 34 تهمة إلى الرئيس الأمريكى السابق دونالد ترامب، تتعلق بدفع مبلغ 130 ألف دولار لممثلة الأفلام الإباحية ستورمي دانيالز، وذلك لشراء صمتها قبل الانتخابات الرئاسية التى أجريت فى نوفمبر 2016 للتكتم على علاقة غير شرعية بينهما. ويرى اتجاه داخل الولايات المتحدة الأمريكية، أن القضية ضعيفة مقارنة بقضايا أخرى مثل الوثائق الرسمية السرية التى ضبطت في مقر إقامته بفلوريدا، أو التدخل لتغيير نتيجة الانتخابات الرئاسية التى جاءت بالرئيس الحالي جو بايدن أو التحريض على اقتحام مبني الكابيتول فى يناير 2020. وتمثلت ردود أفعال ترامب على تلك المحاكمة، قائلًا بأن البلاد ذاهبة إلى الجحيم مشيرًا إلى أنه لم يتصور قط أن شيئًا كهذا يمكن أن يحدث في أمريكا، ومضيفًا أن الجريمة الوحيدة التى ارتكبتها، هى الدفاع بلا خوف عن أمريكا من أولئك الذين يسعون إلى تدميرها. وتشكل مثل تلك التعليقات حفاظًا على الرؤية التى تبناها ترامب منذ بروزه داخل المشهد السياسي الأمريكي ليثير الكثير من الجدل حول ظاهرة الترامبية التي أسهمت تلك الملاحقات فى إعادة إحيائها.
ركائز الترامبية:
قامت الظاهرة الترامبية منذ دخول الرئيس السابق دونالد ترامب إلى السباق الانتخابي الرئاسي، ونيله ثقة الحزب الجمهوري فى انتخابات 2016 على عدد من الركائز الأساسية لعل أهمها:
(*) أمريكا أولاً: شكل شعار أمريكا أولاً الملمح الأبرز لتيار الترامبية منذ انطلاق الحملتين الانتخابيتين للرئيس السابق دونالد ترامب، الأولى في 2016 والتي وصل فيها إلى البيت الأبيض ليصبح الرئيس رقم 45 فى تاريخ رؤساء الولايات المتحدة الأمريكية، والحملة الانتخابية الثانية فى 2020، إلا أنه أخفق فى الانتخابات الرئاسية أمام مرشح الحزب الديمقراطي جو بايدن برغم حصوله على 70 مليون صوت. وقد أعاد ترامب عقب ملاحقته القضايا ترديد شعاره الانتخابي يجب أن نسترجع بلادنا، ونجعل أمريكا عظيمة مجددًا.
(*) ضعف الثقة في المؤسسية: اعتبر ترامب نفسه قادمًا من خارج المؤسسات الأمريكية، حيث لم يتول أي منصب سياسي قبل خوضه الانتخابات الرئاسية فى 2016 كغالبية الرؤساء الأمريكيين الذين تدرجوا فى مناصب منحتهم الخبرة السياسية اللازمة لإدارة الدولة بتقاليد مستقرة، وللمفارقة فإنه يعتقد أنه جاء لتطهير تلك المؤسسات من الفساد وإصلاحها، كما تبنى أسلوبًا تم فيه تهميش المؤسسات التقليدية فى عملية صنع القرار.
(*) التمييز العنصري: يعتقد الكثيرون من مناصري ترامب، بـأنه يعد المنقذ للبيض والمسيحيين البروتستانت، والذى قامت على أكتافهم الولايات المتحدة الأمريكية بعد أن ضحوا بالغالي والنفيس لتأسيس الجمهورية على أنقاض الحكم البريطاني والسكان الأصليين من الهنود الحمر. وهو ما أدى لتنامي شعبوية ترامب لدى قطاعات واسعة من البيض، ممن خسروا من واقع العولمة وزيادة الهجرة وصعود الملونين والأقليات العرقية. لذلك ثمة اتجاه يرى بأن أنصار ترامب يتسمون بالتطرف القومى ومعاداة الآخر. بما جعل ترامب يضع ضمن وعوده الانتخابية بأنه سوف يبني جدارًا مع المكسيك، لمنع المهاجرين من الدخول إلى الولايات المتحدة الأمريكية.
(*) نبذ العولمة: تبنت الترامبية موقفًا معاديًا لحرية انتقال البشر والبضائع، وهو المبدأ الرئيسي الذى قامت عليه العولمة "دعه يعمل.. دعه يمر" ، حيث وضع ترامب قيودًا على الهجرة إلى الولايات المتحدة الأمريكية، ووضع قائمة بعدد من الدول التى يحظر دخول مواطنيها إلى الولايات المتحدة الأمريكية، كما وضع العديد من الإجراءات الحمائية من ضرائب ورسوم على السلع والبضائع القادمة للأسواق الأمريكية.
(*) الانسحاب من الاتفاقيات الدولية: اعتبر ترامب أن الاتفاقيات الدولية تستنزف القدرات الاقتصادية للولايات المتحدة الأمريكية. لذلك اتجه نحو الانسحاب من اتفاقات متعددة الأطراف كان من بينها اتفاق التجارة الحرة مع دول المحيط الهادئ، والذى وقعه الرئيس باراك أوباما، كما انسحب من اتفاقية المناخ الدولية أو ما يعرف ببروتوكول باريس، كما هدد بالانسحاب من منظمة التجارة العالمية، لذلك فإنه كان أكثر ميلًا للاتفاقات التجارية الثنائية وليست متعددة الأطراف.
إحياء الترامبية:
برغم الإخفاقات التي منيت بها الترامبية منذ نجاح الحزب الديمقراطي فى الوصول بمرشحه جو بايدن إلى سدة الحكم فى الانتخابات الرئاسية التي أجريت فى 2020 ، فضلا عن إخفاق مرشحي الحزب الجمهوري المدعومين من ترامب في انتخابات التجديد النصفي للكونجرس فى نوفمبر 2022، إلا أن ثمة شواهد تشير إلى إعادة إحياء الترامبية، والتي يمكن الإشارة إلى أهمها فى التالي:
(&) توظيف ترامب لمحاكمته: يرى اتجاه من السياسيين، أن حملة ترامب لخوض السباق الرئاسي فى 2024 بدأت مع مثوله للمحاكمة أمام محكمة مانهاتن بنيويورك، لا سيما وأنه يمتلك الخبرة فى التعامل مع التسويق الانتخابي عبر وسائل الإعلام. وهو ما دفع أحد المعلقين على مشهد تواجد ترامب داخل المحكمة بالقول" الآن بدأت الحملة الانتخابية لترامب" وقد عزز من هذا التصور أن ترامب وعقب مغادرته للمحكمة عقد مؤتمرًا صحفيًا حاشدًا لمناصريه فند فيه الادعاءات التي اعتبرها مزيفة وتستهدف إقصاءه من المشهد الانتخابي.
(&) تسييس المحاكمة: ثمة جدل يدور داخل المجتمع الأمريكي ما بين اتجاهين رئيسيين، أحدهما يتبناه الحزب الديمقراطي، ويقوم على أنه لأحد فوق القانون أو المساءلة، فى حين يرى الحزب الجمهوري وقياداته بأن المحاكمة مسيسة وتسعى لإقصاء ترامب من الانتخابات الرئاسية القادمة فى 2024، وأن المدعى العام لمنهاتن ينتمي للحزب الديمقراطي، الذى يسعى للانتقام من ترامب. ففي أحدث استطلاع للرأي العام الأمريكي أجرته شبكة "سي إن إن" الإخبارية، أيد غالبية الأمريكيين أن الاتهام الموجه لترامب له دوافع سياسية، وأشار الاستطلاع إلى أن 60% من الأمريكيين يوافقون على لائحة الاتهام، بما في ذلك 37% قالوا إنهم يوافقون بشدة، لكن فى نفس الوقت يعتقد 76 % منهم أن السياسة لعبت دورًا في قرار اتهام ترامب.
(&) تزايد شعبية ترامب بين الجمهوريين: تشير استطلاعات الرأي العام بأن شعبية ترامب تزايدت وسط الناخبين الجمهوريين منذ توجيه التهم إليه وملاحقته قضائيًا. ففي آخر استطلاع للرأي العام لـ"رويترز" بالتعاون مع إيبسوس بالتزامن مع محاكمة ترامب، فإن 48 % من الجمهوريين يؤيدون ترشيح الحزب الجمهوري لترامب مقابل 19 % فقط من الذين يدعمون حاكم ولاية فلوريدا رون ديسانتيس لهذا المنصب. وتظهر هذه الأرقام تقدم ترامب الذى حصل على 44% من الدعم في الاستطلاع نفسه فى مارس 2023 مقابل 30 % لديسانتيس حينها.
(&) تمويل الحملة الانتخابية لترامب: وفقًا لمستشار الرئيس الأمريكي السابق جايسون ميلر، فإن الحملة الانتخابية تمكنت من جمع ما يقرب من 8 ملايين دولار، قائلاً عبر تويتر " الرئيس دونالد ترامب جمع 1,1 مليون دولار اليوم (3 أبريل)، هذا يعنى أنه وبعد 4 أيام من بدء عملية مطاردة الساحرات برئاسة مدعي عام مانهاتن، تمكن الرئيس ترامب من جمع 8 ملايين دولار".
مجمل القول، أدت الملاحقات القضائية للرئيس السابق ترامب إلى إحياء الظاهرة الترامبية، التى تجد ركائزها داخل المجتمع الأمريكي، الذى يشعر فيه الكثير من الأمريكيين البيض، بأن بلادهم خطفت منهم لصالح المهاجرين برغم أنهم جعلوا من أمريكا أرض الأحلام وأرض الأحرار كما يقول النشيد الأمريكي، وهو الأمر الذى سينعكس على السباق الانتخابي الرئاسي سواء فيما يتعلق بمن سيفوز بنيل ثقة الحزب الجمهوري، أو ما يتعلق بصعوبة المنافسة بين الحزبين الديمقراطي والجمهوري فى ظل الانقسام الأمريكي الداخلي حول قانونية المحاكمات أو تسييسها بما سيلقي بظلاله على المشهد الانتخابي القادم فى 2024.