في عوامة على النيل كانت تخرج على الجيران فتاة صغيرة هاوية تحب الغناء، تكسر سكون الليل بأغنية لـ"ليلى مراد" أو "أسمهان"، كان صوتها يُطرب كل من حولها، لكن الأكثر طربًا بصوتها كان جارها رجل الأعمال السيد ياسين.
في كل ليلة كان ياسين يستمع إلى هذا الصوت العذب، مدندنًا بأغاني أم كلثوم، وفي إحدى الليالي تحرك نحو المنزل وطلب أن يقابل والدة تلك الفتاة الصغيرة، التي ولدت في القاهرة عام 1938، ليبدي إعجابه بصوت ابنتها، ويطلب منها أن ينتج لها فيلمًا، وبالفعل كتب لأول مرة اسم المطربة الكبيرة شريفة فاضل على التتر، لتكن الولادة الحقيقية من فتاة تغني في عوامة لجيرانها إلى عالم الشهرة والأضواء.
لم تترك شريفة فاضل الفرصة وقررت أن تدعم موهبتها بالدراسة، وقررت أن تذهب إلى معهد التمثيل رفقة زوج والدتها، لتتعلم كواليس هذا العالم الجديد عليها، ومن هنا جاءت لها الفرصة، لأن تذهب إلى بابا شارو، رئيس الإذاعة المصرية آنذاك، وبدأت معه "سلطانة الطرب" كممثلة وليست مطربة، وهناك فتح لها القدر بابًا آخر إذ تعرّفت على المخرج السيد بدير، وهنا فكرت في إمكان الاستمرار في المهنة فتزوجت، لكنها حكت عن المفاجأة التي صدمتها، إذ قالت: "تزوجته حبًا للفن لكنه منع استمراري في هذا العالم وهذه كانت مفاجأة بالنسبة لي، وبعد فترة استطعت أن أقنعه بالمشاركة في فيلم من إخراجه بعد محاولات عديدة ليوافق، وهنا قدمت أغنية" أمانة يا بكرة" كلمات محمد الموجي.
كانت أغنية "أمانة يا بكرة" نقطة انطلاقة جديدة لـ"عروس المسرح" فلم يستطع زوجها أن يمنع انتشار الأغنية ولا الشهرة التي حققتها زوجته، واضطر أن يتركها تعمل في المجال الذي عشقته وانفصل الثنائي بعد فترة بعدما رُزقت منه بولدين هما "سيد وسامي".
انطلقت الشابة التي حلمت بأن تصبح "أم كلثوم عصرها" في طريقها، وبعد أن تركت زوجها شاركت في فيلم "مفتش المباحث" مع رشدي أباظة ويوسف وهبي وقدمت خلاله 3 أغاني، انتشرت منهم أغنية "يا ابني يا ضنايا" كلمات السيد زيادة، لحن بليغ حمدي، لتوسع رقعة نجاح شريفة فاضل.
كان عام 1961 فارقًا في مشوار شريفة فاضل، فبرغم النجاحات التي حققتها في الإذاعة إلا إن هناك عددًا من الجمهور لم يكن يعرف شكلها حتى خروج التلفزيون في هذا العام، إذ قدّمت مع الملحن منير مراد أغنية "حارة السقايين"، التي انتشرت في كل أرجاء الوطن العربي، وتقول شريفة: "الشهرة الحقيقية كانت هنا، إذ كانت الأغاني التي أقدمها تذاع لسنوات في التلفزيون، وتعاونت مع كبار الملحنين منهم بليغ حمدي ورياض السنباطي".
العمل مع الملحن الكبير رياض السنباطي لم يمر بسلام مع شريفة فاضل، خاصة وأن الجمهور لم يتقبل أغنيتهما سويًا وتحكي: "قدّم لي أغنية عاطفية كُتبت لأم كلثوم والجمهور كان يعرفني في الشعبي، ومع أول حفلة لي في أضواء المدينة قررت افتتاح الحفل بالأغنية التي قدمها لي، لكن الجمهور كان يقاطعني وينادي بالأغاني الأخرى المعروفة بها، نزلت من على المسرح ودموعي على خدي، وهاتفت رياض لأخبره بما حدث، فقال لي: "اصبري على الأغنية الناس هتسمعها"، ولم أغنيها بعد ذلك لمدة 15 عامًا".
لم تتوقف شهرة شريفة على مصر فقط بل ذاع صيتها في الوطن العربي كله لتدخل مرحلة جديدة من حياتها، وتقول: "أول بلد أزورها كانت تونس مع عبد الحليم حافظ، وهناك كنت مرعوبة من الغناء، لكن تفاجئت أن الجمهور يعرف ما أقدمه ويتفاعل معي، وقدمنا هناك 7 حفلات، وبقيت مع عبد الحليم في كل حفلاته بالبلدان العربية ومصر".
التمثيل لم يترك شريفة حتى بعد شهرتها في الغناء، وقدمت عددًا من الأعمال المسرحية الاستعراضية منها "حمدان وبهانة، ويا حبيبتي يا مصر"، لكن لم تستمر لأن المسرح كان يحتاج إلى التزام، بينما الراحلة كانت تحب الغناء في الأفراح وإسعاد الناس.
"أم البطل" لم يأتي هذا اللقب من فراغ ففي فترة السبعينيات اُستشهد ابنها في الحرب وبعد 3 أشهر قررت أن تعبر عن مشاعر الفجع والحزن بداخلها وداخل كل أم استشهد دفاعًا عن أرضه ودخلت غرفة ابنها لتخرح معها بكلمات: "ابني حبيبي يا نور عيني، بيضربوا بيك المثل، كل الحبايب بتهنيني، طبعًا منا أم البطل، يا مصر ولدي الحر، اتربى وشبع من خيرك، اتقوى من عظمة شمسك".
واليوم رحلت عنا شريفة فاضل لتنطوي رحلتها ولتشفي أوجاعها، ترحل وتترك وراؤها تاريخ وإرث كبير سيظل باقيًا يتوارثه الأجيال.