يأتي انعقاد مؤتمر المناخ COP27 في مدينة شرم الشيخ المصرية في الفترة من 6- 18 نوفمبر 2022، ليعكس التطلعات الرامية إلى مواجهة التداعيات الناجمة عن التغيرات المناخية وآثارها، التي أضحت تهدد التنمية والمكتسبات البشرية التي تحققت على مدار عقود متتالية، لاسيما وأن تلك التغيرات أسهمت في بروز ظواهر مناخية جديدة مثل: اللجوء البيئي والتشرد، وتنامي الهجرة المناخية بفعل قسوة المناخ. لذلك ثمة آمال معقودة على أن تتوصل قمة شرم الشيخ عبر حوار جاد بين دول الشمال والجنوب لتوزيع عادل للأعباء المناخية في ظل مساهمة الدول الصناعية بالنسبة الأكبر من ملوثات البيئة بسبب التقدم الصناعي المتنامي، لتتأثر بتداعياتها الدول المتوسطة والصغيرة.
مؤشرات ضاغطة:
يمكن إبراز عدد من المؤشرات التي تعكس ملامح غياب العدالة المناخية، وذلك على النحو التالي:
(*) انبعاثات الدول الكبرى: وفقاً لتقرير فجوة الانبعاثات لعام 2019، الصادر عن برنامج الأمم المتحدة للبيئة، فإن الدول الأربع المتسببة في أكبر قدر من غازات الاحتباس الحراري هي: الصين، الولايات المتحدة الأمريكية، الاتحاد الأوروبي، الهند، بإجمالي انبعاثات تقدر بـ 55 في المئة من الانبعاثات العالمية، في حين أن إفريقيا تسهم بنسبة لا تتجاوز 4 في المئة من تلك الانبعاثات. كما تعد الولايات المتحدة أكبر مصدر لانبعاثات غازات الاحتباس الحراري، على مدار عقد كامل (بين عامي 1913 و2013). وأما الصين، فهي في الوقت الحالي تعد أكبر مصدر في العالم للانبعاثات الكربونية المسببة لظاهرة الاحتباس الحراري، بنحو 25 في المئة، وذلك وفقاً لأحدث تقرير صادر عن الاتحاد الأوروبي عام 2018. وهي أكبر مستهلك للفحم في العالم، ووفقاً للإحصاءات الدولية، فقد أصدرت الصين ما يقرب من ضعفين ونصف ضعف انبعاثات الولايات المتحدة عام 2019، بنصيب 27 في المئة من حصة الانبعاثات العالمية، تليها الولايات المتحدة بحصة 11 في المئة، ثم الهند والاتحاد الأوروبي بحصص 3.4 و3.3 في المئة، على التوالي تليها إندونيسيا وروسيا والبرازيل واليابان بحصص أقل من 2 في المئة لكل منها.
(*) اللجوء البيئي: يشير مصطلح اللاجئ البيئي، إلى هؤلاء الأشخاص الذين أُجبروا على ترك موطنهم، بشكل مؤقت أو دائم، بسبب اضطراب بيئي ملحوظ يعرض وجودهم للخطر، أو يؤثر تأثيرًا خطيرًا على نوعية حياتهم. فقد هدد تغير المناخ والتصحر سبل الحياة لملايين البشر، ما دفع الكثيرين إلى مغادرة منازلهم بحثًا عن أماكن أخرى. وتشير نتائج دراسة أمريكية أجراها باحثون بجامعة "كورنير" الأمريكية، إلى أن عدد اللاجئين حول العالم بسبب التغيرات المناخية سيصل إلى 2 مليار نسمة في عام 2100، وفى عام 2060 سيصبح عددهم 1,4 مليار شخص حول العالم. ويعود ذلك إلى ارتفاع مستويات المحيطات وغرق المدن المشاطئة للسواحل، بما يدفع قاطنيها للبحث عن أماكن بديلة ملائمة للإقامة.
(*) معضلة التمويل المناخي: يتعلق التمويل المناخي بالأموال التي يجب إنفاقها على مجموعة كاملة من الأنشطة اللازمة للحد من الانبعاثات التي تسبب تغير المناخ، ولمساعدة اقتصادات الدول النامية على التكيف وبناء المرونة إزاء تلك التأثيرات. لذلك جاء تحذير وزير الخارجية سامح شكري الرئيس المعين للدورة الـ27 لمؤتمر أطراف اتفاقية الأمم المتحدة الإطارية لتغير المناخ "كوب27" في حواره مع الجارديان البريطانية في 28 أكتوبر 2022، من أن "الدول الغنية تفقد ثقة العالم النامي؛ لأنها تخلفت عن الوفاء بالتزاماتها بتوفير التمويل المناخي للدول الفقيرة".
حلول ناجزة:
تُطرح العديد من الاستراتيجيات لمواجهة غياب العدالة المناخية بين دول الشمال والجنوب، والتى يمكن الإشارة إلى أهمها في التالي:
(1) مبادلة الديون: تعد مبادلة الديون من الآليات المبتكرة لمواجهة التحديات التنموية التي تواجه الدول النامية بسبب التغيرات المناخية والأزمات الاقتصادية الطارئة، مثل جائحة كورونا، والحرب الروسية الأوكرانية، التي كانت تداعياتها على دول القارة الإفريقية أشد وطأة، ووفقا للدكتور محمود محيى الدين رائد المناخ للرئاسة المصرية، خلال مشاركته في منتدى مصر للتعاون الدولي والتمويل الإنمائي في سبتمبر 2022، فإن حجم الديون الواجب علي الدول الإفريقية سدادها خلال العام الجاري يُقدر بـ64 مليار دولار، وهو ضعف قيمة ما حصلت عليه من تمويل عبر المساعدات الثنائية، كما أن 20 مليون إفريقي مهددون بالانضمام إلى خط الفقر المدقع في حال تفاقمت الأوضاع بالنسبة لستة عشر دولة إفريقية مرشحة للدخول في مرحلة ضائقة الديون، فضلاً عن أن تقييم الوضع الاقتصادي يشير إلى وصول 59 في المئة من الدول الإفريقية إلى مرحلة الإفلاس أو ضائقة الديون. لذلك تحتاج القارة الإفريقية وفق خبراء اقتصاديين إلى استثمارات ضخمة لتحقيق التنمية والوفاء بالتزاماتها الوطنية، وتفعيل السندات الخضراء والزرقاء لتمويل إجراءات التكيف مع تغير المناخ، وهو ما يتطلب توحيد الجهود عبر الحوار بين الشمال والجنوب للتوصل إلى اتفاقية متعددة الأطراف لمبادلة الديون، حيث لا تزال 90 في المئة من مقايضات الديون ذات طبيعة ثنائية.
(2) إنشاء صندوق المناخ الأخضر: اتفقت الدول المشاركة في فعاليات قمة المناخ "كوب 16" التى عقدت بمدينة كانكون المكسيكية في 2010 على إنشاء الصندوق الأخضر للمناخ، الذي يتولى عملية تقديم منحة تصل إلى 100 مليار دولار، وذلك بهدف مساعدة الدول النامية لكى تتمكن من تبني مبادرات فعالة لمواجهة التغيرات المناخية، كذلك منع جميع العمليات الرامية لإزالة الغابات، والذي من المفترض أنه بدأ العمل به منذ عام 2020. ودعماً لذلك المسار أكد الدكتور محمد معيط وزير المالية -فى تصريحات له فى 29 أكتوبر 2022- أن مصر تتبنى فى يوم التمويل -الذى ستنظمه وزارة المالية ويعقد ضمن فعاليات قمة شرم الشيخ المناخية فى 9 نوفمبر 2022- رؤية إفريقيا التي تستهدف تعزيز الفرص التمويلية للاستثمارات الخضراء من أجل مكافحة التغيرات المناخية خاصة بالبلدان النامية والإفريقية على نحو يؤدي إلى خفض تكلفة تمويل المشروعات الصديقة للبيئة عبر آليات ميسرة، بما يسهم في تحفيز التحول إلى الاقتصاد الأخضر، وحشد التمويل للتنمية المستدامة.
(3) التقاضي المناخي: تدعو بعض منظمات المجتمع المدنى إلى تطوير آليات التقاضي المناخي، بحيث يلزم دول الشمال المتقدم، والتى تسببت في أضرار مناخية إلى درء تلك المخاطر وتحمل تكلفتها الاقتصادية والبيئية، وذلك من خلال تبنى تشريعات دولية ترسى مبدأ التقاضي المناحي، وبرغم التحديات التي تواجه التقاضي المناخي على مستوى الدول في ظل غياب التشريعات اللازمة لهذا الغرض، فإن ثمة نجاحات وطنية داخل عدد من الدول منها على سبيل المثال: في يوليو 2020، فاز أصدقاء البيئة الأيرلندية بقضية تاريخية ضد الحكومة الأيرلندية لفشلها في اتخاذ إجراءات كافية لمعالجة أزمة المناخ والبيئة. وفى عام 2018، رفعت عشرات العائلات من دول أوروبية دعاوى قضائية ضد الاتحاد الأوروبي بسبب التهديدات التي تتعرض لها منازلهم بسبب انبعاثات غازات الاحتباس الحراري في الاتحاد. وفي كولومبيا رُفعت دعاوى قضائية ضد الحكومة لحماية منطقة الأمازون من إزالة الغابات بسبب مساهمة إزالة الغابات في تغير المناخ، وفي عام 2018، قضت المحكمة العليا بأن الغابات المطيرة الكولومبية هي "كيان بيئي مؤثر يتطلب الحماية والإصلاح".
(4) التعويضات المناخية: تعكس تصريحات الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو جوتيرش بشأن الخسائر والأضرار التي تتعرض لها المجتمعات بسبب التغيرات المناخية والتي وصف التعامل مع تداعياتها بأنها "مسألة أساسية تتعلق بالعدالة المناخية والتضامن والثقة الدوليين". وبرغم بروز قضية التعويضات المناخية في مؤتمرات القمم المناخية المتتالية، التي كان أحدثها دعوة مجموعة من الدول النامية في قمة جلاسكو |كوب 26| في 2021، الدول المتقدمة للالتزام بالتعهد بتقديم أموال عن الخسائر والأضرار المناخية- إلا أن تلك القضية لم تحسم بشكل جذري، إذ تسعى الدول الصناعية لطرح فكرة المسؤولية الجماعية، كما أن قبولها بمبدأ التعويض يعني إقرارًا بمسؤوليتها التاريخية عن الانبعاثات الكربونية الذى تتجنبه، حيث تشير بعض التقديرات إلى أنه بحلول عام 2050 قد تتجاوز التكاليف الاقتصادية للخسائر والأضرار تريليون دولار كل عام، مع تزايد وتيرة التغيرات المناخية الحادة.
(5) تخفيض انبعاثات الغازات: يعتبر بروتوكول كيوتو لعام 1997 -الذى دخل حيز التنفيذ إلا في عام 2005- أول معاهدة دولية ملزمة لأطرافه، ومن خلاله تمت مطالبة جميع الدول بضرورة خفض انبعاثات الغازات لديها بمعدل 5 في المئة من مستوياتها التى كانت عليها في عام 1990. وتماشيًا مع تلك الجهود تبنت قمة المناخ باسكتلندا "كوب 26" العام الماضى الدعوة لخفض الانبعاثات إلى النصف بحلول 2030، بحيث لا يتجاوز ارتفاع متوسط الحرارة العالمية +1.5 درجة مئوية بنهاية القرن الحالي. لكن هذا الهدف لا يزال صعب المنال في ظل استمرار الدول الصناعية بنفس وتيرة انبعاثاتها الحرارية.
مجمل القول، إن العدالة المناخية التي يفتقدها المجتمع الدولي وتنتج عن المفارقة من أن الدول الأقل انبعاثاً للغازات الملوثة للبيئة، هي الأكثر تضرراً من تلك الانبعاثات، تجعل الآمال تتعلق بمخرجات مؤتمر شرم الشيخ للمناخ للمساهمة في التخفيف من حدة تلك المعاناة عبر توفير آلية تمويلية واضحة تتفق عليها دول الشمال والجنوب، حيث تحتاج الدول النامية لما يقرب من 300 مليار دولار سنويًا بحلول 2030 حتى تتمكن من تنفيذ إجراءات التكيف لمواجهة التغيرات المناخية الحادة وآثارها الممتدة على التنمية المستدامة، وهو الأمر الذى سيسهم حال تحققه في إعادة الاعتبار لإرساء مبدأ العدالة المناخية.