باخموت.. تلك المدينة التي لا تزال على أرضها تدار أشرس المعارك بين القوات الروسية والقوات الأوكرانية، قبل أيام من ذكرى بداية الحرب التي هزت العالم أجمع على جميع الأصعدة، سياسيًا، اقتصاديًا، اجتماعيًا وعسكريًا.
وتتمسك كل من كييف وموسكو بالانتصار في هذه المدينة تحديدًا، التي وفق خبراء لا تنعكس أهميتها على الصعيد العسكري والاستراتيجي فقط، لكنها الآن تعتبر مسرح المعركة الأطول والأكثر عنفًا منذ بدء الحرب الروسية على أوكرانيا.
وتقع المدينة شمالي مقاطعة دونيتسك، حيث شهدت المنطقة تقدمًا للقوات الروسية وقوات فاجنر العسكرية، التي قال عنها البيت الأبيض إنها تكبدت خسائر فادحة في الأرواح خلال هذه المعركة وصل عددها لنحو 30 ألفًا من عناصرها، بما في ذلك ما يقرب من 9 آلاف مسلح، مع استمرار القتال العنيف في مدينة باخموت شرق أوكرانيا، وفق قناة CNN الأمريكية.
وقد أعلن مؤسس مجموعة "فاجنر"، يفجيني بريجوجين، سيطرة القوات الروسية بالكامل على قرية باراسكوفييفكا شمالي باخموت في دونيتسك، مُقرًا بوقوع خسائر فادحة في صفوف قواته.
وقال "بريجوجين" في منشور عبر حسابه على موقع "تيليجرام" أمس الجمعة: "قرية باراسكوفييفكا تحت السيطرة الكاملة لوحدات المجموعة العسكرية فاجنر.. على الرغم من الخسائر الفادحة والمعارك الدامية، سيطر الرجال على كامل المنطقة".
أتى ذلك بعد دعوة نائبة رئيس الوزراء الأوكرانية، إيرينا فيريشوك، الجمعة الماضي، السكان المدنيين في باخموت إلى إخلائها مع تصاعد الهجمات الروسية.
جاء هذا التحذير بعدما تمكنت القوات الروسية في وقت سابق من تطويق باخموت، التي يجري القتال فيها ضد القوات الأوكرانية منذ أسابيع من أجل السيطرة عليها، عبر ثلاثة محاور.
وتوقع قائد مجموعة فاجنر الروسية السيطرة على باخموت بالكامل، في "مارس المقبل أو أبريل، مرجعًا ذلك إلى "البيروقراطية العسكرية الروسية".
وتقع باراسكوفييفكا بين سوليدار وباخموت، التي تسيطر عليها القوات الأوكرانية.
خسائر هائلة
بينما يسعى كل طرف إلى ترسيخ وجوده، طغت الخسائر البشرية بين القوات المسلحة والمدنيين على الأهمية الاستراتيجية للسيطرة على هذه المدينة الصناعية السابقة، والتي باتت أحياؤها الشرقية والشمالية والجنوبية دمارًا.
وقد أعلن البيت الأبيض أن مجموعة فاجنر العسكرية الخاصة تكبدت أكثر من 30 ألف قتيل منذ بداية العملية العسكرية الروسية الخاصة في أوكرانيا.
وقال المتحدث باسم مجلس الأمن القومي الأمريكي جون كيربي، للصحفيين في إفادة دورية، إن مجموعة فاجنر حققت مكاسب متزايدة داخل باخموت وحولها خلال الأيام القليلة الماضية، لكن تلك المكاسب استغرق تحقيقها عدة أشهر وجاءت "بتكلفة مدمرة لا يمكن تحملها".
وأضاف "كيربي": "من المحتمل أن ينتهي بهم الأمر بالنجاح في باخموت، لكن ذلك سيثبت أنه ليس له قيمة حقيقية لأنه ليس له قيمة استراتيجية"، موضحًا أن القوات الأوكرانية ستحتفظ بخطوط دفاعية قوية عبر منطقة دونباس.
وقال "كيربي" للصحفيين إن فاجنر لا تزال تعتمد بشكل كبير على المدانين الذين أرسلوا إلى الحرب بدون تدريب أو معدات، وذلك على الرغم مما أعلنه رئيسها في الآونة الأخيرة عن التوقف عن تجنيد السجناء للقتال في أوكرانيا.
هجوم مستمر
وفق تصريحات لمار كانسيان، المحلل بمركز الدراسات الاستراتيجية والدولية والضابط السابق في مشاة البحرية الأمريكية، لوكالة "فرانس برس"، يرى أن المقاربة المعتمدة من الطرفين، تعد "مشكلة كلاسيكية من الحرب العالمية الأولى"، موضحًا أنه بعد فشل المحاولات الروسية الأولى لمحاصرة باخموت، "واصلت موسكو الهجوم" بصورة مستميتة، رغم أن الانتصار في باخموت "لا يعني شيئًا على المستوى العسكري والاستراتيجي".
واعترف "كانسيان" بأن خيارات أوكرانيا محدودة، مضيفًا "بالتالي، هناك الكثير من الرمزية في حال سيطروا على باخموت، سيتظاهرون بأنها مهمة ولكنها ليست كذلك"، وفق ما نقلته "فرانس برس".
كان الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي قد طالب بصورة متكررة من حلفائه في الغرب، بتزويد كمية الأسلحة المقدمة لبلاده.
وقال "زيلينسكي" في بداية فبراير الجاري أمام كبار المسؤولين الأوروبيين في كييف "إذا تسارعت عملية تسليم الأسلحة، خصوصًا بعيدة المدى، لن يقتصر الأمر على عدم الانسحاب من باخموت، ولكن سنبدأ في إنهاء احتلال دونباس". وأضاف أن الجيش سيدافع عن باخموت "لأطول فترة ممكنة".
سياسة "الأرض المحروقة"
ولا تتعلق معركة باخموت بأسلحة عالية الدقة فقط، إذ يشير المحلل العسكري الأوكراني أوليكسندر كوفالينكو إلى أن كييف تحتاج بشكل أساسي إلى مدفعية وذخيرة شائعة الاستخدام، وأضاف "إذا لم يحدث ذلك، سنواجه مشكلات خطيرة في باخموت".
وتسعى روسيا للمضي قدمًا شرقي أوكرانيا، لا سيما في باخموت الاستراتيجية، لمحاصرة القوات الأوكرانية في إقليم دونباس، لكنها تواجه هناك مقاومة أوكرانية شرسة.
وعلى عكس العمليات الهجومية المضادة في القتال جنوب وشرق أوكرانيا في كل من خاركييف ولوجانسك وزابورجيا وخيرسون، تتخذ القوات الأوكرانية مواقع دفاعية تمركزية في مقاطعة دونيتسك بإقليم دونباس.
ويستهدف التقدم في المدن الرئيسية في إقليم دونباس، التي تسيطر أوكرانيا على نصفها تقريبا، لاسيما- مدينة باخموت والتي تسعى موسكو للسيطرة عليها منذ أغسطس الماضي، ما جعلها تحول باخموت مركزًا حيويًا من مراكز القتال.
ورغم ثبات الأوكرانيين في باخموت وحولها، يخشى بعض المحللين من اتباع القوات الروسية سياسة "الأرض المحروقة" في المدينة، كما فعلت في مدن ماريوبول وسيفيرودونيتسك وليسيتشانسك قبل ذلك.
ووفق تقرير لمعهد ستراتفور Startfor))، فإن هذا التكتيك العسكري الذي تنتهجه روسيا في حربها وخاصة في الشرق الأوكراني يعمل على تفريغ المدن من المنشآت والبنية التحتية حتى يتم فرار المدنيين من المدن المستهدفة، ثم وضعها تحت مظلة العلم الروسي.
وهذه السياسة التي تتبعها موسكو في المنطقة الشرقية الأوكرانية حتى تستطيع السيطرة عليها، لكن باخموت استطاعت أن تصمد منذ أغسطس حتى الوقت الراهن رغم تقدم القوات الروسية المحدود.
مدينة الملح "الاستراتيجية"
وتقع باخموت قي شمال شرق إقليم دونيتسك بأوكرانيا، ومنذ بدء الحرب الروسية الأوكرانية اكتسبت مدينة باخموت أهمية استراتيجية كبرى؛ إذ تسعى موسكو للسيطرة عليها وضمها منذ أغسطس الماضي، في ظل الحرب طويلة الأمد.
ولم يكن للمدينة التي كان يسكنها أكثر من 70 ألفًا أهمية زراعية أو صناعية تذكر، حيث إنها مدينة معروفة باستخراج الملح الصخري، وهي تساهم بنسبة 30% من الإنتاج الوطني لذلك يطلق عليها "مدينة الملح"، وتقع مناجم الملح في مدينة سوليدار على بُعد 10 كيلومترات شمال شرق باخموت.
الممر الوحيد
وعلى الرغم من توافق الخبراء العسكريين أن باخموت لا تعكس أهمية عسكرية أو استراتيجية في أرض المعركة، إلا أنها بالنسبة لموسكو تعتبر بوابة جنوبية شرقية شبه وحيدة لتقدم قواتها في عمق منطقة دونيتسك، وخاصة نحو المدن الرئيسية الخاضعة للسيطرة الأوكرانية، خاصة بعد خسارتها مدينة إزيوم في جنوب منطقة خاركيف الشمالية في سبتمبر 2022.
وتقع باخموت على أطراف الطريق الدولي "إتش- 32"، الذي يصلها بمدن كونستانتينيفكا ودروجكيفكا وكراماتورسك وسلافيانسك إضافة لاقترابها من الطريق الدولي "إم-03" الذي يصلها مباشرة بسلافيانسك ويتابع نحو منطقة خاركييف بعدها.
أما بالنسبة لكييف، فقد باتت باخموت حصن الدفاع عن بقية مدن دونيتسك؛ إذ توجه منها القوات الأوكرانية ضربات قوية صوب المواقع الخاضعة منها للسيطرة الروسية.
وتعي القوات الروسية والأوكرانية على حد سواء أن سقوط باخموت في يد الروس سيمنحهم فرصة للتقدم؛ إذ يبعث الجانبان بتعزيزات عسكرية إليها.