تشهد القارة الأوروبية تحولًا نفسيًا وسياسيًا عميقًا بعد جيل من السلام، مع تصاعد دعوات رسمية غير مسبوقة تطالب الشعوب بالاستعداد لاحتمال اندلاع حرب مع روسيا، إذ بات مسؤولون أمنيون وحكوميون يوجهون رسائل تحذير متكررة من صراع محتمل، في تحول يعكس حجم القلق المتزايد في العواصم الأوروبية.
رسائل التحذير
وبحسب صحيفة "وول ستريت جورنال"، فنادرًا ما يمر أسبوع من دون خطاب قاتم يصدر عن حكومة أو جيش أو مسؤول أمني أوروبي، يحذر من التوجه نحو مواجهة محتملة مع روسيا.
وخلال عطلة نهاية الأسبوع، شبّه المستشار الألماني فريدريش ميرز استراتيجية الرئيس الروسي فلاديمير بوتين في أوكرانيا باستراتيجية هتلر عام 1938 عند السيطرة على منطقة السوديت، محذرًا من أن سقوط أوكرانيا لن يكون نهاية المطاف.
وجاء ذلك بعد أيام من خطاب للأمين العام لحلف الناتو مارك روته قال فيه إن الصراع بات وشيكًا، وأن روسيا قد تكون مستعدة لاستخدام القوة ضد الحلف خلال خمس سنوات، بينما أكد رئيس أركان الجيش الفرنسي أن بلاده في خطر لأنها غير مستعدة لقبول فقدان أبنائها.
وأوضحت "وول ستريت جورنال" أن الشعور بالإلحاح تزايد مع مساعي إدارة ترامب للتوسط لإنهاء الحرب في أوكرانيا، وسط مخاوف أوروبية من أن يؤدي ضغط واشنطن إلى اتفاق سلام مجحف يمنح بوتين جرأة إضافية.
وتخشى العواصم الأوروبية أيضًا من أن وقف إطلاق النار قد يسمح لروسيا بإعادة توجيه مواردها العسكرية نحو أوروبا، وتترافق هذه المخاوف مع قلق من أن إدارة ترامب ذات النزعة الانعزالية قد لا تقدم الدعم لأوروبا في حال تعرضها لهجوم، خصوصًا أن استراتيجية الأمن القومي الأمريكي الأخيرة لم تصنف روسيا كعدو للمرة الأولى منذ سنوات.
تحذيرات استخبارية
وفي المقابل، جاء التقييم السنوي لرئيس جهاز المخابرات السرية البريطانية بلهجة مختلفة، إذ حذر بليز مترويلي من أن روسيا ستواصل محاولات زعزعة استقرار أوروبا حتى يُجبر بوتين على تغيير حساباته.
كما صرح رئيس أركان القوات المسلحة البريطانية ريتشارد نايتون بأن الوضع أخطر مما شهده خلال مسيرته المهنية، داعيًا الشعب البريطاني إلى الاستعداد وتحمل التضحيات، وأشارت الصحيفة إلى أن هذه الرسائل تمثل تحولًا عميقًا بالنسبة لأوروبا، التي صُمم الاتحاد الأوروبي فيها لمنع تكرار الحروب الشاملة.
وبعد الحرب الباردة، خفضت الدول الإنفاق العسكري ووجهت الموارد إلى الإنفاق الاجتماعي، فيما يحذر سياسيون اليوم من صعوبة إعادة غرس عقلية عسكرية لدى الرأي العام، وأظهر استطلاع للرأي العام الماضي أن ثلث الأوروبيين فقط مستعدون للقتال دفاعًا عن بلدانهم، مقارنة بنسبة أعلى في الولايات المتحدة.
الردع والحرب
ونقلت الصحيفة عن الأدميرال الهولندي المتقاعد روب باور قوله إن الحفاظ على السلام يتطلب الاستعداد للحرب لردع بوتين، مشيرًا إلى قلق متزايد من أن المجمع الصناعي العسكري الروسي ينتج قدرات تفوق حاجته في أوكرانيا.
وفي جلسات مغلقة، يعبر مسؤولون أوروبيون عن اعتقادهم بأن الناخبين لن يدعموا زيادة الإنفاق العسكري أو إعادة التجنيد الإجباري إلا إذا اقتنعوا بأن الهجوم بات محتملًا.
وذكرت "وول ستريت جورنال" أن مسؤولين أمنيين يرون أن روسيا بدأت بالفعل هجومًا سريًا في المنطقة الرمادية، عبر عمليات تخريب للبنية التحتية، وهجمات إلكترونية، وحوادث حرق متعمد، إلى جانب اختراقات جوية بطائرات مسيرة.
ونفى الكرملين هذه الاتهامات، مؤكدًا أن فكرة غزو روسيا لدول أخرى كذبة. ومع ذلك، اتهمت ألمانيا موسكو بالوقوف وراء هجوم إلكتروني عام 2024 ومحاولات تدخل انتخابي، فيما اشتبه مسؤولون بأن هذه التحركات تهدف إلى التحضير لهجوم على خطوط إمداد الناتو.
استعدادات عسكرية
وفي مواجهة ذلك، تتخذ الحكومات الأوروبية خطوات استباقية، إذ أعلنت فرنسا إعادة العمل بالخدمة العسكرية التطوعية، وتكثف ألمانيا تدريباتها، بينما تقلص بريطانيا تدريباتها خارج أوروبا للتركيز على روسيا.
كما اتفقت دول الناتو الأوروبية على رفع الإنفاق الدفاعي إلى 3.5 بالمئة من اقتصاداتها بحلول عام 2035، مع تخصيص 1.5 بالمئة إضافية لتدابير أمنية داعمة.
وتعهدت ألمانيا بإنفاق أكثر من تريليون دولار على جيشها وبنيتها التحتية خلال العقد المقبل، رغم أن تداعيات هذه المقايضات لم تنعكس بعد بشكل كامل على حياة المواطنين في كبرى الاقتصادات الأوروبية.