تشهد صناعة الدفاع البريطانية تحولًا لافتًا مع توافد شركات ألمانية ناشئة لافتتاح مصانع إنتاج الطائرات المُسيَّرة، في محاولة لسد النقص الحاد الذي يعاني منه الجيش البريطاني في هذا المجال الحيوي، في حين تأتي هذه الخطوة وسط تحذيرات من مسؤولي الدفاع البريطانيين من بطء عمليات الشراء وتقادم الترسانة الموجودة من الأسلحة غير المأهولة.
سباق الاستثمارات الألمانية
في تطور متسارع، افتتحت شركة "هيلسينج" الألمانية مصنعًا في مدينة بليموث هذا الشهر لإنتاج "طائرات شراعية" مائية ذاتية القيادة لكشف الغواصات، بينما افتتحت شركة "ستارك" المنافسة والمدعومة من الملياردير التقني الأمريكي بيتر ثيل، مصنعًا في سويندون بعد يوم واحد.
ولم تتوقف الاستثمارات عند هذا الحد، إذ أعلنت شركة "آركس روبوتيكس" الألمانية عن خطط لضخ 45 مليون جنيه إسترليني في مصنع قرب لندن، بحسب ما ذكرته صحيفة "فايننشال تايمز".
وكشفت الصحيفة أن "هيلسينج" التزمت باستثمار ضخم يصل إلى 350 مليون جنيه إسترليني لتصنيع مُسيّرات تعمل تحت الماء لاكتشاف الغواصات، رغم أن طائرتها الهجومية الرئيسية لا ازال تُصنَّع في ألمانيا.
أما مصنع "ستارك" في سويندون فسينتج مجموعة متنوعة من الأسلحة، تشمل مُسيَّرات بحرية وطائرات هجومية بعيدة المدى.
لماذا بريطانيا؟
تمثل المملكة المتحدة وجهة مغرية للشركات الألمانية لأسباب إستراتيجية واقتصادية متعددة، إذ تعد أكبر مُنفِق على الدفاع في أوروبا بميزانية سنوية تبلغ 62 مليار جنيه إسترليني هذا العام، كما تتمتع بنظام تراخيص أكثر مرونة لتصدير الأسلحة مقارنة بدول أوروبية أخرى.
ويوضح مايك أرمسترونج، المدير التنفيذي لـ"ستارك" في بريطانيا، أن "المؤسسة العسكرية البريطانية بارعة في دعمك في أسواق التصدير الأجنبية عندما تدخل معداتك في الخدمة لديها".
وتتزامن هذه الاستثمارات مع توقيع ألمانيا وبريطانيا اتفاقية تعاون دفاعي العام الماضي، تعهد الطرفان فيها بالعمل المشترك على قدرات دفاعية محددة مثل أسلحة الضربات العميقة.
كما سلطت المراجعة الدفاعية الإستراتيجية البريطانية الصادرة في يونيو الماضي الضوء على تكنولوجيا الطائرات المسيّرة، داعية إلى "زيادة عشرة أضعاف في القوة الفتاكة" من خلال الاستثمار في التكنولوجيا.
دروس أوكرانيا والفجوة التقنية
غيّرت الحرب في أوكرانيا قواعد اللعبة في مجال الطائرات المسيّرة، إذ تسببت الطائرات التجارية الرخيصة في ما بين 70 إلى 80% من الإصابات، وأعادت تشكيل ساحة المعركة بالكامل، والأهم من ذلك، كشفت هذه الحرب المدى الذي تتأخر فيه دول حلف الناتو عن روسيا والصين في تكنولوجيا الطائرات المسيّرة.
ويؤكد ديفيد روبرتس، الرئيس التنفيذي البريطاني لشركة "آركس روبوتيكس"، أن "هناك فجوة كبيرة في قدرات الطائرات المسيّرة لدى القوات المسلحة البريطانية يجب سدها بسرعة إذا أردنا امتلاك قوة ذات مصداقية".
معضلة الشراء والتطور السريع
تواجه بريطانيا معضلة حقيقية في عمليات الشراء العسكري، حيث أشار مسؤولون كبار في الدفاع إلى أن التطور السريع لتكنولوجيا الطائرات المسيّرة يجعل تخزينها منطقاً غير عملي نظراً لقصر عمرها الافتراضي.
وقال آل كارنز، وزير القوات المسلحة، خلال افتتاح مصنع سويندون: "التكنولوجيا تتطور بسرعة هائلة في أوكرانيا مع الترقيات والتكيف المبتكر للطائرات المسيّرة. لو اشتريت طلبية ضخمة من الطائرات الآن، ستجدها عفا عليها الزمن".
ويمثل دفع وزارة الدفاع البريطانية للشراء محلياً لتعزيز الصناعة المحلية أحد الأسباب الرئيسية لافتتاح الشركات الألمانية مصانع في بريطانيا.
وكان جيمس جافين، رئيس قسم نقل التكنولوجيا في مديرية التسليح الوطنية البريطانية المسؤولة عن تطوير وتسليم الأسلحة والمعدات، واضحاً الأسبوع الماضي بقوله: "لن أموّل شيئاً يُشترى جاهزاً من الخارج، نقطة ونهاية القصة".
الواقع المقلق للمخزون البريطاني
رغم أن وزارة الدفاع البريطانية أعلنت الشهر الماضي إرسال 85 ألف طائرة مسيّرة من أصل هدف يبلغ 100 ألف طائرة بقيمة 600 مليون جنيه إسترليني إلى أوكرانيا هذا العام، إلا أن المشتريات لقواتها الخاصة كانت أقل بكثير وفقاً للأرقام المتاحة علناً، إذ اشترى الجيش البريطاني حتى الآن 450 طائرة مسيّرة فقط، مع جدولة تسليم 3000 طائرة إضافية في أغسطس 2025.
أما البحرية وسلاح الجو، فقد حصلا على عدد صغير من الطائرات المسيّرة لأغراض الاختبار والتقييم.
وقد شاركت كل من "هيلسينج" و"ستارك" في تجارب لطائراتهما الهجومية مع الجيش البريطاني، رغم أن طائرات "ستارك" أخفقت في إصابة أهدافها، إلا أن الشركة الألمانية وصفت التجربة بأنها "تمرين تعليمي".
قلق محلي ووعود حكومية
رغم تعهدات الحكومة البريطانية برفع الإنفاق الدفاعي الأساسي إلى 2.6 بالمئة من الناتج المحلي بحلول 2027 و3.5 بالمئة بحلول 2035 في أكبر زيادة مستدامة منذ نهاية الحرب الباردة، يشعر مديرو شركات الدفاع بالقلق من عدم توقيع عقود جديدة، إذ ان الإنفاق المخطط حتى 2027 يبقى محدوداً للغاية، ويحذر مسؤولون تنفيذيون من استمرار انتظار منح العقود طويلة الأجل.
وأثار قدوم الشركات الألمانية مخاوف الشركات البريطانية من استبعادها من خطة تحديث الطائرات المسيّرة.
وقال أحد مؤسسي شركة بريطانية ناشئة للطائرات المسيّرة إن التركيز على الشركات الألمانية والأميركية "قصير النظر"، مضيفاً: "هذه فرصة تُهدَر بسبب رغبة قصيرة الأجل في الظهور بمظهر حل المشكلة. من المؤكد أن هذه فرصة لدعم الشركات البريطانية التي تستخدم بالفعل وحدات إنتاج بريطانية مثبتة في جميع أنحاء البلاد".