داخل قاعات معرض الشارقة الدولي للكتاب بدورته الـ44، حيث تمتزج اللغات وتتحاور الحضارات، تحضر اليونان هذا العام كضيف شرف لتقدم صورتها الثقافية الحديثة في مشهد يحتفي بالتاريخ والابتكار معًا، حضور لا يقتصر على عرض الكتب فحسب، بل يمتد ليجسّد تفاعلاً فكريًا وفنيًا عميقًا بين ضفتي المتوسط.
وعلى ضفاف هذا اللقاء الثقافي الكبير، تحدثت الدكتورة سيسي باباثاناسيو، رئيسة لجنة الآداب في وزارة الثقافة اليونانية ورئيسة البعثة المشاركة، لموقع "القاهرة الإخبارية"، عن أبعاد هذه المشاركة التي تعكس عمق الروابط بين الثقافة اليونانية والعربية، وعن رؤية اليونان لبناء شراكات معرفية جديدة.
بداية.. كيف تنظرين إلى مشاركة اليونان كضيف شرف في معرض الشارقة الدولي للكتاب هذا العام؟
نحن فخورون للغاية بهذه المشاركة التي تمثّل لنا محطة مهمة في مسيرة التعاون الثقافي بين اليونان والعالم العربي، والشارقة اليوم تعد واحدة من أهم المدن الثقافية في العالم، بفضل الرؤية الملهمة للشيخ الدكتور سلطان بن محمد القاسمي، الذي جعل من الثقافة جسرًا للتنمية الإنسانية والحوار الحضاري.
كما لا يسعني إلا أن أثني على الشيخة بدور بنت سلطان القاسمي، رئيسة مجلس إدارة هيئة الشارقة للكتاب، التي نجحت في ترسيخ مكانة الإمارة كمركز محوري للتواصل الثقافي بين الشرق والغرب، وفي الحقيقة، حين يذكر اسم الشارقة، يذكر معها الإبداع، وهذا ما يجعل وجودنا هنا ذا معنى خاص جدًا.
كيف تقيّمين تنظيم المعرض والفعاليات التي تقام ضمنه؟
التنظيم يفوق التوقعات، سواء من حيث البنية التحتية أو جودة الفعاليات، لقد شاركت في مؤتمرات كثيرة حول العالم، لكن مؤتمر الناشرين الدولي في الشارقة يعد من أقوى المؤتمرات التي حضرتها في مسيرتي المهنية.
كما لفت انتباهي البرنامج المخصص للأطفال واليافعين، الذي يجمع بين التعليم والإبداع بطريقة ذكية ومحفزة، الإقبال الكبير من فئات الشباب على القراءة والتعلم يعكس نجاح الرؤية الثقافية التي تتبناها الشارقة، لأنها تزرع بذرة المعرفة في الأجيال الجديدة وتبني جيلًا واعيًا ومسؤولًا.
جناح اليونان في المعرض لفت الأنظار بتصميمه المميز.. ما الفكرة التي يقف عليها هذا التصميم؟
حرصنا على أن يكون الجناح تجربة بصرية وفكرية تعكس روح اليونان وثقافتها، لذلك جاء تصميمه على هيئة سفينة أثينية قديمة، ترمز إلى فكرة الرحلة الفكرية التي تنقل شرارة الإبداع الإغريقي إلى العالم.
السفينة هنا ليست مجرد رمز، بل تجسيد لفكرة الجسر الثقافي الذي يربطنا بالآخر، وخاصة بالعالم العربي والإمارات، والمجاديف تمثل دفتين الأولى تحمل الأدب والإبداع اليوناني، والثانية ترمز إلى حركة الترجمة بين اللغتين العربية واليونانية، وفي المنتصف وضعنا طاولة مستديرة للحوار، تمثل نقطة التقاء بين الزوار والمبدعين، إنها صورة رمزية لما نؤمن به فالثقافة لا تزدهر إلا بالحوار.
ما أبرز ما يتضمنه جناح اليونان من محتوى ثقافي وأدبي؟
الجناح يقدم معرضًا مصغرًا يوثق رحلة الأدب اليوناني بعد العصر الكلاسيكي، بداية من الحقبة البيزنطية وصولاً إلى الأدب الحديث، ويمكن للزائر أن يكتشف تطور الكتابة والفكر من خلال أعمال كبار الأدباء اليونانيين، مثل جورجيوس سفريس (الحائز على نوبل عام 1963) وأوديسياس إليتيس (نوبل عام 1979).
كما نعرض مخطوطات قديمة وقطعًا أثرية مرتبطة بتاريخ الأدب والكتابة في اليونان، في تجربة تمزج بين التاريخ والإبداع، وفي مقدمة الجناح تتوسط المشهد شجرة الزيتون، رمزنا الوطني الخالد، التي تعبر عن الجذور والعطاء والاستمرارية، وهي بالنسبة لنا تمثل جوهر الحضارة اليونانية وروحها الإنسانية.
ما الرسالة التي تسعون إلى إيصالها من خلال هذه المشاركة؟
العالم العربي يعرف الكثير عن اليونان القديمة وفلاسفتها، لكننا نريد اليوم أن نقدم له صورة متكاملة عن اليونان الحديثة بثقافتها المعاصرة وإبداعاتها الأدبية والفنية، نحن نسعى لبناء شراكات حقيقية مع المؤسسات العربية في مجالات النشر والترجمة والإبداع المشترك، وهذه المشاركة ليست حدثًا عابرًا، بل خطوة نحو تأسيس جسور طويلة الأمد من التعاون الثقافي بين العالمين العربي واليوناني.
مَن يشارك معكم ضمن الوفد اليوناني هذا العام؟
يضم الوفد أكثر من 70 شخصية من الكتّاب والأكاديميين والفنانين والمترجمين والناشرين، جميعهم يعملون بروح واحدة من أجل تعزيز التواصل الثقافي بين اليونان والعالم العربي، ما يميز هذه المشاركة أنها ليست مجرد حضور رسمي، بل منصة للتفاعل الحي وبناء شراكات مؤسسية دائمة في مجالات الأدب والفن والترجمة.
يحمل برنامج مشاركتكم شعار "الأدب اليوناني.. الرحلة الطويلة".. ما أبرز محاوره؟
البرنامج متنوع ويغطي مختلف الفنون الأدبية والفكرية، لدينا جلسة بعنوان المونودراما اليونانية المعاصرة، تتناول التفاعل بين الشعر والمسرح الحديث، وجلسة أخرى بعنوان "الشعر اليوناني المعاصر.. أصداء بالعربية"، تركز على مختارات من القصائد الحديثة التي تقدم للمرة الأولى بالعربية ضمن أنطولوجيا مشتركة تجمع شعراء عرباً ويونانيين، كما يشهد المعرض عرضًا مسرحيًا مميزًا بعنوان فيلوكيتيس، مستوحى من الأسطورة الإغريقية التي تتناول مفاهيم العزلة والوفاء الإنساني، إضافة إلى عروض موسيقية يومية تمزج الشعر بالموسيقى في فضاء فني حي، تحت عنوان "البرنامج الثقافي والفني.. المسرح المتجول".
هل هناك فعاليات مخصصة للأطفال واليافعين ضمن مشاركتكم؟
نعم، نولي اهتمامًا كبيرًا بهذه الفئة، وخصصنا مجموعة من الورش التفاعلية تحت عنوان الحياة والكتابة، لتقديم فكرة التعليم والفن في اليونان القديمة والمعاصرة بأسلوب مبسط وممتع، كما يقام برنامج فني بعنوان الطفل والتعليم من اليونان القديمة حتى اليوم، يقدمه فنانون ورسّامون يونانيون يشرحون كيف تطور الفكر التربوي والفني في بلادنا عبر العصور، هدفنا أن يخرج الأطفال من هذه الورش وهم يشعرون بأنهم جزء من رحلة الإبداع الإنساني.
يضم برنامجكم أيضًا جلسات حول المطبخ اليوناني.. ما الفكرة وراء هذا الدمج بين الثقافة والطعام؟
نؤمن أن الثقافة ليست فنًا أو أدبًا فقط، بل تجربة متكاملة تشمل جميع الحواس، والمطبخ اليوناني هو جزء من تراثنا وحياتنا اليومية، وهو يعكس العلاقة بين الإنسان والطبيعة والبحر والتاريخ، لذلك نقدم سلسلة من جلسات الطهي التفاعلية التي تستعرض المأكولات التقليدية وأصولها التاريخية وصلتها بالثقافة المتوسطية والعربية، إنها وسيلة للاقتراب من الآخر بطريقة ودودة وإنسانية.
في الختام.. ما الرسالة التي تودين إيصالها من خلال مشاركة اليونان في هذا الحدث العالمي؟
أرى أن مشاركتنا في معرض الشارقة الدولي للكتاب ليست احتفاء بالماضي فقط، بل تأكيد على أن الإبداع الإنساني لا يتوقف عند حدود زمنية أو جغرافية، نحن نؤمن بأن الثقافة هي المركب الأجمل الذي يوصل الشعوب نحو فهم أعمق لبعضها البعض، وأن الشارقة تمثل اليوم ميناءً عالمياً ينطلق منه هذا الحوار الحضاري نحو المستقبل.