على بعد خطوات من أهرامات الجيزة، ينبثق مشروع فريد من نوعه يجسد التقاء الحضارة الفرعونية العريقة مع أحدث التقنيات العالمية، ليصبح المتحف المصري الكبير رمزًا للتراث الإنساني والتعاون الدولي. هذا الصرح الثقافي الذي طال انتظاره تحول من حلم إلى حقيقة بفضل شراكة استراتيجية بين مصر وشركاء عالميين من مختلف القارات، حيث توحدت الخبرات والتقنيات والموارد في سبيل الحفاظ على الإرث الثقافي ونقله للأجيال القادمة.
ولا يعد المتحف المصري الكبير، المقرر افتتاحه في 1 نوفمبر القادم، مجرد تحفة معمارية تعرض قطعًا أثرية، وإنما رسالة أمل ورؤية حضارية لمستقبل يربط الماضي المجيد بالحاضر والتقدم التكنولوجي، عبر تعاون دولي مستدام يجمع بين مصر ومنظمات دولية رائدة.
حجر الأساس لتحقيق الحلم
لم يكن المتحف المصري الكبير ليرى النور بهذه الصورة المبهرة لولا الدعم الدولي الواسع الذي تلقاه المشروع منذ انطلاقه، فقد شكل التعاون بين مصر ومجموعة من الحكومات والمؤسسات الدولية ركيزة أساسية في تحويل الفكرة إلى واقع ملموس. من اليابان التي ساهمت عبر وكالة "جايكا" بخبرات تقنية وتمويل ميسر، إلى دعم البنك الدولي لمعايير الاستدامة البيئية، وصولًا إلى إشراف اليونسكو على الجوانب المتعلقة بصون التراث، كانت كل جهة تقدم عنصرًا أساسيًا في منظومة متكاملة ومعقدة.
ولم يقتصر هذا التعاون على التمويل أو التقنية فقط، بل شمل التدريب، وتبادل المعرفة، والتخطيط الاستراتيجي طويل المدى، ليصبح المتحف مشروعًا عالميًا بامتياز، يعكس كيف يمكن للتكامل الدولي أن يصنع إنجازًا حضاريًا يخدم الإنسانية جمعاء.
تكنولوجيا متطورة ترمم التاريخ
تعد اليابان شريكًا مهمًا في نجاح مشروع المتحف، حيث قدمت مساهمات نوعية عبر وكالة اليابان للتعاون الدولي "JICA" التي وفرت أحدث المعدات والمعامل المتخصصة في ترميم الآثار. بحسب وكالة "كيودو" اليابانية في عام 2024، فإن "المتحف المصري الكبير نموذج متقدم لدمج التكنولوجيا اليابانية مع الإرث المصري، حيث ساهمت المعدات الحديثة في حماية آلاف القطع الأثرية من عوامل الزمن والبيئة".
مشروع قارب خوفو الثاني
التعاون الياباني المصري منذ عام 2006، عبر وكالة اليابان للتعاون الدولي (JICA)، تولى مشروع ترميم واستخراج وتوثيق الأجزاء الخشبية للقارب الشمسي الثاني لخوفو، الذي اكتُشف في هضبة الجيزة، وتم استخراج حوالي 1700 جزء من 13 طبقة داخل الحفرة.
نقل القطع الأثرية
تم نقل حوالي 72 قطعة أثرية، من بينها بعض مقتنيات توت عنخ آمون، من المتحف المصري بالتحرير إلى مركز ترميم المتحف الكبير، بدعم تقني ياباني، بما في ذلك أجهزة مثل المجهر الرقمي، وآلة إشعاعية محمولة، ورافعة كهربائية لرفع القطع الثقيلة بطريقة آمنة.
تمويل مبكر
قدمت اليابان قرضًا ميسرًا لتمويل بناء المتحف، وتجهيز المعارض، والبنية التحتية لتقنية المعلومات، والتصميم الداخلي والحدائق، وغيرها من المكونات الأساسية للمتحف.
التدريب وبناء القدرات
كما تم توفير برامج تدريب لموظفي المتحف والتقنيين المصريين في الترميم والإدارة المتحفية من خلال التعاون مع اليابان، إلى جانب مشروع مشترك مع الجامعة المصرية اليابانية للعلوم والتكنولوجيا (E-JUST) لتبادل الخبرات في علم ترميم التراث.
ضمان حماية التراث
أشادت منظمة اليونسكو بالمتحف كمشروع عالمي يحافظ على التراث ويوفر منصة تعليمية للباحثين والمهتمين، مؤكدة في بيان رسمي عام 2024 أن المتحف يعكس أفضل الممارسات الدولية في حفظ التراث الثقافي، ويعتبر مركزًا عالميًا للتدريب والبحث في فنون الترميم.
وشاركت اليونسكو مع فريق المتحف في الاجتماعات المتعلقة بحماية موقع الأهرامات والمناظر المحيطة، وضمان أن المشروعات الجديدة، مثل الممشى السياحي بين المتحف والأهرامات، لا تؤثر سلبيًا على المنظر الطبيعي والقيمة العالمية للموقع ضمن التراث العالمي.
وتم الاتفاق أيضًا على عقد مؤتمرات دولية تحت راية اليونسكو لتعزيز الوعي بأهمية المتاحف والتراث، ومشاركة الخبرات بين المتاحف الإقليمية والعالمية.
نموذج الاستدامة والابتكار
قدم البنك الدولي دعمًا ماليًا وتقنيًا للمشروع، حيث نال المتحف شهادة "EDGE Advanced" للمباني الخضراء، كأول متحف في إفريقيا والشرق الأوسط يحصل عليها.
وقالت الدكتورة رانيا المشاط، وزيرة التخطيط والتنمية الاقتصادية والتعاون الدولي المصرية، في عام 2024: "إن المتحف المصري الكبير يعكس شراكة قوية بين مصر والمجتمع الدولي لتعزيز التنمية المستدامة والابتكار في الحفاظ على التراث".
تقنيات عالمية
سلطت وكالة الأنباء العالمية الضوء على التعاون التقني مع خبراء ومهندسين من أوروبا وأمريكا، الذين شاركوا في تصميم وبناء المتحف المصري الكبير، مؤكدين الجمع بين الأصالة المصرية والتكنولوجيا المتقدمة لضمان سلامة المعروضات وتجربة زائر متميزة.
نقطة تحول في السياحة الثقافية
أعلنت منظمة السياحة العالمية في عام 2025 أن المتحف المصري الكبير سيشكل ركيزة أساسية لتعزيز السياحة الثقافية في مصر، مما ينعش الاقتصاد ويجذب ملايين الزوار سنويًا.
ونتاج كل هذه الجهود والتعاون المثمر، بات المتحف المصري الكبير أكثر من مجرد صرح أثري، فهو قصة نجاح تجسد التعاون الدولي والالتزام المشترك بحماية تراث البشرية. وبتضافر جهود مصر واليابان، اليونسكو، البنك الدولي، وخبراء العالم، يتحقق اليوم حلم حضاري يفتح أفقًا جديدًا أمام التاريخ والثقافة والسياحة في مصر والعالم.
فمن خلال هذا التعاون الدولي المكثف والمتنوع، من اليابان التي وفرت موارد تقنية وتمويل، إلى المؤسسات الاقتصادية العالمية التي ساعدت المتحف على تبني معايير الاستدامة، ومن اليونسكو التي ضمنت الحماية والإدارة المسؤولة، والإدارة متعددة الأطراف التي تشرك الخبراء والشركاء من كل أنحاء العالم، تحقق الحلم الذي طال انتظاره: متحف مصري كبير ليس فقط ليعرض الآثار، بل ليحفظها للأجيال، ويعرضها بكل تكريم، ويعد جسرًا بين ماضٍ مجيد ومستقبل واعد.
ويعد هذا المشروع اعترافًا عالميًا بأن التراث الإنساني مسؤولية مشتركة، وأن التعاون بين الدول يمكن أن ينتج إنجازات تتجاوز الحدود وتنفع الإنسانية جمعاء، وتضع مصر في موقع ريادي عالمي في الثقافة والحضارة.