عندما بدأت الحافلات الإسرائيلية رحلتها القصيرة لنقل السجناء الفلسطينيين من السجون الإسرائيلية إلى قطاع غزة، كان معظم المفرج عنهم لم يُحاكَموا قط، واحتُجزوا في ظروفٍ قاسيةٍ خلال الحرب، وكان كثيرٌ منهم مجرد أطرافٍ ثانويةٍ في الصراع؛ فهم شبانٌ أُدينوا برشق الحجارة، أو اعتُقلوا بسبب منشوراتٍ على مواقع التواصل الاجتماعي.
كما يُعتبَر بعض المفرج عنهم في صفقات تبادلٍ سابقةٍ خلال هذا العام رموزًا للمقاومة الفلسطينية، بينهم زكريا الزبيدي، بطل الهروب قصير الأمد من سجن "جلعاد"، وحسام شاهين، قائد شباب فتح، الذي اشتهر بإضراباته عن الطعام.
في المقابل، بالنسبة للإسرائيليين، كانت الحافلات مليئةً بمن يرونهم "إرهابيين"، حيث تم تبادل نحو 4000 منهم خلال حرب غزة، التي استمرت عامين، مقابل معظم المحتجزين الـ 251 لدى حماس.
وبخلاف هؤلاء، يلفت تقريرٌ لصحيفة فايننشال تايمز البريطانية إلى أن الضغط المتكرر لإطلاق سراح السجناء "المهمين" من قادة الفصائل، بجانب هؤلاء الشباب، لطالما شكَّل ما وصفه مسؤولٌ إسرائيلي بأنه "تقليدٌ قائمٌ على الضرورة".
ساحة تدريب
حتى قبل الحرب الأخيرة في غزة، كانت إسرائيل قد استبدلت، منذ ثمانينيات القرن العشرين، ما لا يقل عن 8500 سجينٍ مقابل أقل من عشرين أسيرًا إسرائيليًا على قيد الحياة، معظمهم من الجنود، إلى جانب رفات ثمانية آخرين، وفقًا لتقديرات فايننشال تايمز.
في الواقع، طالما خلق هذا حافزًا لفصائل المقاومة الفلسطينية – وليس حماس فحسب – لاختطاف الجنود الإسرائيليين لمقايضتهم بمواطنيهم.
وهذا الأمر "غذّى سوقًا مُروّعة للقيمة الإنسانية، حيث يُقايَض كل إسرائيليٍّ مُختطَفٍ بالعشرات، وأحيانًا بالمئات، من الفلسطينيين المُحرَّرين"، كما يشير التقرير.
وتشير الصحيفة إلى أن "السجون الإسرائيلية أصبحت ساحة تدريبٍ غير مقصودةٍ للجيل القادم من القيادة الفلسطينية".
وفي السجن، يُوضَع نشطاء حماس، وكذلك فتح وجماعاتٌ فلسطينيةٌ أخرى، من الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين اليسارية، إلى حركة الجهاد الإسلامي، معًا، حيث يتغذّون على أفكار بعضهم البعض، ويدرسون، وينتظرون الإفراج التالي مع نموّ سمعتهم في الخارج.
ويُطلِق السجناء على هذه الظاهرة لقب "جامعة هداريم"، وهو اسم أحد السجون الإسرائيلية التي تضم جامعة سجنٍ رسمية، وكان أبرز روّادها مؤسّس حماس الراحل الشيخ أحمد ياسين، وكذلك رئيسها الراحل يحيى السنوار، العقلَ المدبّر لعملية "طوفان الأقصى" في 7 أكتوبر 2023.
إلا الكبار
في تبادل الأسرى هذا الأسبوع، رفضت إسرائيل إطلاق سراح كبار الأسرى الذين يحظون بشعبية جارفة في الشارع الفلسطيني، مثل زعيم فتح مروان البرغوثي، الذي يصفه أنصاره بأنه نيلسون مانديلا الفلسطيني، وأحمد سعدات، زعيم الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، الذي سُجن بتهمة اغتيال وزيرٍ إسرائيلي عام 2001، بعد أن هدّد بالتطهير العرقي للفلسطينيين.
مع هذا، أطلق الإسرائيليون سراح عددٍ من الذين أنفقت أجهزتهم الأمنية موارد كبيرة في تعقّبهم واعتقالهم، مثل عبد الناصر عيسى، الذي أُلقي القبض عليه عام 1995 وعمره 27 عامًا، واتُّهم بالتخطيط لتفجيرات الحافلات بعد أن تتبّعه الأمن الإسرائيلي من دمشق إلى غزة، ثم إلى شقةٍ صغيرةٍ في نابلس بالضفة الغربية المحتلة.
ووُصف عيسى بأنه أحد مؤسّسي الجناح العسكري لحركة حماس في الضفة الغربية، وحكمت عليه المحاكم العسكرية بالسجن مدى الحياة مرتين، بالإضافة إلى سبع سنواتٍ أخرى.
لكن في فبراير من هذا العام، وبعد ثلاثة عقود، خرج عيسى، وهو نحيل، في السابعة والخمسين من عمره، من سجنٍ إسرائيليٍّ خلال وقف إطلاق النار.
تقول فايننشال تايمز: عاش عيسى كمناضلٍ في الظل، لكن في السجن نمت أسطورته، مدعومةً بقصة أن الشاب صمد أمام التعذيب الإسرائيلي فترةً كافيةً لمساعدة أحد تلاميذه على إتمام مهمةٍ استشهاديةٍ أخيرة. وبينما جعلته حماس رمزًا للمقاومة الفلسطينية ويُنظَر إليه أيضًا كمرشحٍ للقيادة، يُشكّل عيسى بالنسبة لإسرائيل الآن خطرًا داهمًا، فهو مقاتلٌ متمرّسٌ حوّله السجن إلى اسمٍ يُلهم المجنّدين المحتملين.
وتعتقد إسرائيل أنه، على الرغم من أن أيام قتاله قد انتهت، فإن عيسى لا يزال يشكّل تهديدًا من الخارج، حيث يمكنه مساعدة حماس في جمع الأموال والعمل مع شبكاتٍ تدرب وتسلّح المسلحين في لبنان وسوريا وأماكن أخرى، وفقًا لمسؤولٍ كبيرٍ سابقٍ في جهاز الشاباك.