في الجزء الأول من المسلسل الاستخباراتي الإسرائيلي الشهير "فوضى"، كان على مجموعة من المستعربين التسلل وسط فرح فلسطيني في قطاع غزة من أجل اغتيال أحد قادة حماس. رغم نجاحهم في البداية، إلا أن أحد الحضور كشف أمرهم وباءت المهمة بالفشل، عندها صرخ أحدهم بالكلمة التي تعني اقتحام المكان وقتل الجميع إذا لزم الأمر "فوضى".
وبعد عملية "طوفان الأقصى" في 7 أكتوبر 2023، بدا أن مجتمع الاستخبارات الإسرائيلي بأكمله، الذي فوجئ بالفشل الذريع أمام حركة حماس، قد نطق بالكلمة نفسها "فوضى"، التي أعطت الضوء الأخضر لاكتساح كل شيء طالما الفشل من نصيبهم.
بعد عامين من الفشل الاستخباراتي والأمني الذريع الذي أعقبه عدوان فوضوي مكتسي بجرائم إبادة وأفعال ضد الإنسانية، تتجلى نتائج التحقيقات الإسرائيلية حول كيفية إخضاع منظومة المراقبة الإسرائيلية، وأسباب الفشل الذريع أمام تخطيط حركة حماس.
إقرار بالفشل
عندما نشر الجيش الإسرائيلي تقريره الرسمي حول أحداث 7 أكتوبر 2023، الذي أجرته رئاسة الأركان، أقرّ فيه بما وصف أنه "سلسلة إخفاقات كارثية في توقع الهجوم ومنعه والتعامل معه".
خلص التحقيق العسكري إلى أن جيش الاحتلال استخفّ بشكل كبير بقدرات حركة حماس قبل الهجوم، وأن الاستراتيجية الإسرائيلية ركّزت بشكل مفرط على تهديدات أخرى -مثل حزب الله في لبنان- بينما اعتمدت على المعلومات الاستخباراتية والعوائق الدفاعية وحدها في غزة، ما جعلها عُرضة للمفاجأة.
ووصف التقرير نجاح حركة حماس في اختراق السياج الأمني بأنه "حدث كارثي لا يمكن تغطيته بأي إنجازات ميدانية"، بينما كان مستوى الاستعداد الإسرائيلي "شبه معدوم". وعلى ضوء ذلك، تحمّل رئيس الأركان هرتسي هاليفي (الذي اعتُبر أعلى مسؤول يستقيل على خلفية الإخفاق) المسؤولية قائلاً إنه كان جزءًا من الفشل.
إلى جانب الجيش، أجرى جهاز الأمن العام الإسرائيلي (الشاباك) تحقيقًا داخليًا ركّز على أسباب الإخفاق المباشر في توقع هجوم حماس.
أظهرت النتائج، التي نُشرت في أوائل مارس 2025، أن "الشاباك" فشل في توفير إنذار مبكر للهجوم واسع النطاق، وأقرّ بضعف التنسيق الاستخباري بين الشاباك والجيش وعدم وضوح تقسيم المسؤوليات بينهما فيما يخص التحذير من الحرب، خاصة مع تحول حركة حماس إلى قوة عسكرية شبه نظامية.
كما انتقد تقرير "الشاباك" بشكل حاد المستوى السياسي الإسرائيلي، مشيرًا إلى أن سياسة الحكومة في غزة، وإهمال مواجهة تعاظم قوة حركة حماس، إضافة إلى الانتهاكات في المسجد الأقصى والتضييق على الأسرى الفلسطينيين وتآكل الردع الإسرائيلي – كلها عوامل ساعدت حركة حماس على بناء قدراتها العسكرية بسرية.
وكشف الشاباك أنه تلقى مؤشرات تحذيرية ليلة 6 أكتوبر، مثل قيام عناصر حركة حماس بتفعيل عشرات شرائح الهاتف الإسرائيلية دفعة واحدة داخل غزة، إلا أنها لم تُترجم إلى إجراءات ملموسة أو استنفار أمني قبل الهجوم.
أما في تحقيق شعبة الاستخبارات العسكرية "أمان"، التابعة لهيئة الأركان، والجهة المسؤولة عن الاستخبارات العسكرية وتقدير التهديدات الخارجية، ظهر أن الاستخبارات العسكرية الإسرائيلية انهارت فعليًا صباح 7 أكتوبر وعجزت عن تقديم أي إنذار استباقي.
تحييد الموساد
قبل وقت قصير من اندلاع عملية "طوفان الأقصى"، أصدر جهاز الاستخبارات الإسرائيلي "الموساد" ورقة موقف قلّل فيها من خطر الهجوم من قِبل حركة حماس، حسبما ذكرت القناة الـ 12 العبرية.
ونقل التقرير عن تقييم وكالة التجسس الإسرائيلية الأكبر قوله: "نحن ندرك أن قيادة حماس في قطاع غزة ليست مهتمة بالصراع العسكري مع إسرائيل في الوقت الحاضر، ولكنها لن تتراجع إذا فُرض عليها ذلك".
وتقول صحيفة "تايمز أوف إسرائيل" إن التقرير، الذي نُشر قبل أسبوعين فقط من الهجوم الذي نفّذه مقاتلو حركة حماس، أكّد فيه الموساد أن الحركة "حافظت على درجة عالية من الجاهزية خوفًا من الإجراءات المضادة الإسرائيلية".
وقالت الصحيفة إن "المصلحة العامة لقيادة حماس في غزة هي تجنّب التصعيد في الوقت الراهن".
في المقابل، نفى الموساد مسؤوليته عن الاستخبارات في غزة، ولم يوضح، في ضوء ذلك، سبب إعداده لورقة الموقف.
ونقلت الصحيفة عن بيان لجهاز الاستخبارات الإسرائيلي: "بموجب توزيع المسؤوليات بين أجهزة الاستخبارات، لا يتحمّل الموساد أي مسؤولية عن التنبيهات الاستراتيجية بشأن استخدام القوة في الساحة الفلسطينية"، مضيفًا أنه بذلك ينسب "أهمية ضئيلة" للوثيقة.
وبحسب البيان، فإنه "بموجب هذا التحديد، لم يتعامل الموساد عمليًا في قطاع غزة، لا في جمع المعلومات الاستخباراتية، ولا في تشغيل العملاء، ولا في تنفيذ العمليات الخاصة".
ثغرات استخباراتية
تلفت دراسة أجراها باحثو مركز "القدس" حول الفشل الاستخباراتي الإسرائيلي في مواجهة حركة حماس، إلى أن أجهزت الاستخبارات لدى الاحتلال اكتشفت أن لديها ثغرات كبيرة في منظومة جمع المعلومات الاستخباراتية قبيل الهجوم.
على صعيد الاستخبارات البشرية، تبيّن أن إسرائيل لم يكن لديها عملاء فعليون داخل قطاع غزة يمكنهم اختراق أسرار حركة حماس. وفق التحقيقات، لم تُشغّل وحدة تجنيد العملاء "الوحدة 504" التابعة لشعبة الاستخبارات العسكرية عميلًا واحدًا في غزة حتى 7 أكتوبر، ما ترك ثغرة خطيرة في المعرفة المباشرة بنوايا الحركة.
كما اعتمد الاحتلال بشكل شبه كامل على الاستخبارات التقنية -التنصّت الإلكتروني والمراقبة عن بُعد- إلا أن الاعتماد المفرط على هذه الوسائل بجوار التحصينات الحدودية أثبت قصوره، "فقد تمكنت حركة حماس من تحييد أجهزة المراقبة وكسر السياج الإلكتروني المتطور باستخدام جرافات وعبوات ناسفة، متجاوزة جميع العوائق التي ظنّ الجيش أنها ستحبط أي تسلل".
أيضًا، أظهرت التحقيقات ضعف التكامل بين مصادر المعلومات المختلفة لدى الاحتلال؛ فحتى المعلومات البسيطة، كاعتراض اتصالات أو رصد تحركات مريبة، لم تدمج بصورة فعّالة ضمن تقييم موحّد ليلة الهجوم.
بالفعل، سُجلت فجوات في التعامل مع المعلومات ودمج الاستخبارات خلال ليلة 6-7 أكتوبر، مع عدم اتباع البروتوكولات المعتادة، وعدم وجود اندماج بين معلومات "الشاباك" والاستخبارات العسكرية لحظتها.
كما أشارت تحقيقات "أمان" تحديدًا إلى أن تقارير المراقبين وفرق الاستطلاع القتالي بشأن استعدادات حركة حماس لهجوم "طوفان الأقصى" لم تصل إلى رئيس شعبة الاستخبارات ولم تُدرج في تقييماته الاستخبارية قبل الهجوم.
تحليلات خاطئة
إلى جانب مشكلات جمع المعلومات، كشفت التحقيقات عن تصدعات في تحليل المعلومات وتقييم التهديدات. فقد ترسخت لدى أجهزة الاستخبارات الإسرائيلية قناعة خاطئة بأن حركة حماس لا تسعى لمواجهة واسعة، وأن أي تصعيد محتمل سيكون محدودًا ويمكن احتواؤه.
أيضًا، بدا من أوجه الإخفاق الاستخفاف بنمط تفكير حركة حماس ودوافعها. فقد اتضح أن كثيرًا من ضباط الاستخبارات الإسرائيليين لم يدرسوا بعمق الثقافة العربية أو الدين الإسلامي أو حركات الإسلام السياسي، ما أثّر على فهمهم لذهنيات قادة حركة حماس. وقد اعترفت "أمان" بأنها تخلّت، تدريجيًا، عن تدريب كوادرها على اللغة العربية والدين الإسلامي عبر السنوات، باستثناء بعض المختصين اللغويين.
كما برز عامل قصور رقابي داخلي في جهاز الاستخبارات، فقبيل الهجوم كانت دائرة الرقابة في "أمان" تتألف من شخصين فقط بصلاحيات محدودة تقتصر على مراجعة تقديرات قسم الأبحاث دون جميع أجهزة الاستخبارات، ما يعني أنه لم تكن هناك آلية فعّالة لمراجعة سلامة الاستنتاجات أو تحدي الفرضيات السائدة.